أرشيف ‘سلسلة تعلم’ التصنيفات

تعلم كيف تواجه .. وتعلم كيف تناظر ” 2 “

التعليقات مغلقة
شروط المناظرات وضوابط المشاركة فيها

سبق التعرض لأهمية العودة للأصول عند معالجة أى قضية ومعرفة حكمها ,
وأهم موضوع فى عالمنا المعاصر افتقد تلك الضرورة هو حكم وشروط المناظرات فى الإسلام , تلك الشروط والضوابط التى قد تؤدى بالعالم أو بالباحث ـ الغير ملتفت إليها ـ إلى مهاوى الكفر أو الزندقة أو الرياء
وتكمن الكارثة أن العالم أو المفكر أو الباحث غالبا ما يخوض بالمناظرات دون توافر ضرورتها وشروطها وهو يظن نفسه يؤدى واحدة من أعظم الطاعات إلى الله عز وجل , وهذا من ألاعيب وتلبيس إبليس المفضلة للتغرير بحراس الحدود فى الدين ,
فمن المعروف أن العالم أشد على إبليس من ألف عابد وأشد العلماء على إبليس هو العالم أو الباحث الذى يجعل همه تحرى الشبهات والذود عن الدين , ولما كان إبليس ـ لعنه الله ـ غالبا ما يجد الطريق مسدودا إلى غواية أى عالم فإنه يلجأ إلى أخبث أنواع التلبيس التى توقع البعض وينجو منها البعض الآخر

وهذا النوع من التلبيس هو دفع العالم أو الباحث إلى المساهمة فى هدم ما يسعى هو نفسه لحمايته , وبدلا من أن يكون نتاج جهد العالم صلاحا فى الأمة تكون النتيجة زيادة التضليل والغواية للجماهير بشكل ربما يعجز عنه أصحاب الشبهات
ولأن أمر المناظرات الجدلية واضح بيّن بالقرآن والسنة , فلم يترك علماء الإسلام جهدا فى التحذير من المناظرات وتوضيح ضوابطها وضرورتها , لا سيما وأن علاج أثرها بالغ الصعوبة , لأن المتورط فيها يكون مقتنعا بأنه يدافع عن الدين ويذود عنه

علة منع وتحريم جدل المناظرات
سبق أن تعرضنا لمفهوم المناظرات وما يحيط بها وصفاتها عند بسط الفارق بينها وبين الحوار , وعلة تحريمها تتمثل فى آثارها على المجتمع وعلى العلماء كما يلي
أولا : تورث الضعينة والبغضاء والعجب بالنفس والزهو بالعلم وهذا كله طريق إلى جهنم ـ والعياذ بالله ـ بسبب وجود نص الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود حيث قال
{ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : أربعة علماء فى النار .. عالم تعلم العلم ليبارى به العلماء , أو يمارى به السفهاء , أو يصرف به وجوه الناس إليه , أو يأتى به السلطان }
والحديث كما نرى شديد الوضوح فى أن العلم ـ وهو طريق الجنة ـ يصبح طريقا للنار لو داخل العالم شبهة زهو أو إعجاب تتمثل فى تعمده الظهور على أقرانه من العلماء أو تعمده إظهار نفسه بصورة العالم أمام العامة عن طريق جدالهم والتغنى بتفوقه أمامهم
ثانيا : لا يوجد فى المناظرات حدود مانعة , فكل طرح مباح , ولهذا ترى مناظرات العقائد تتناثر فيها أقوال الكفر والزندقة والشبهات المختلفة مما يكون له الأثر المدمر على العامة ,
وبدلا من أن تكون هناك شبهة واحدة دخل العالم مناظرة لردها , تتكون عشرات الشبهات ـ مع تنوع النقاش ـ ومنها ما قد يكون شبهات دقيقة لا تتضح إلا بشرح طويل غير متاح فيبقي أثرها على الناس ويستحيل تفاديه
لهذا , كان علماء الإسلام يردون على أهل البدع بمعزل عنهم ـ ما أمكنهم ذلك ـ , فإذا رأى عالم من علماء المسلمين كتابا أو سمع خطبة من مارق عن الدين يقوم بالرد عليه بكتاب مماثل طالما كانت شبهات المبتدع قد انتشرت بين الناس وكثر فيها التساؤل أو يقوم بتناول هذا الموضوع بخطبة أو محاضرة لكنه لا يناظر المبتدع ولا يجلس معه كأصل عام له استثناء سنبينه
ثالثا : هدف المناظرات هو الانتصار للنفس , وبالتالى يجد المناظر المسلم نفسه فى أغلب الأحوال يتحمس ويبذل الجهد للرد عن نفسه لا عن الدين وغضبا لنفسه لا غضبا للدين و وذلك عندما يقوم مناظره باتهامه ـ سواء بحق أو بباطل ـ بالاتهامات المعتادة كالجهل وعدم الفهم ونحو ذلك
ولا شك أن الانتصار للنفس هو من الشيطان , وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يغضب لنفسه قط , بل للدين وحده
رابعا : طبيعى أن ينجح علماء الإسلام فى ردع المبتدعين وأهل الشبهات نظرا لأن صاحب الشبهات ضعيف مهما امتلك من أساليب المحاورة , فالحق بقوته لابد من ظهوره أمام الباطل وتلك سنة الله فى الكون , وغالبا ما يصاحب نجاح العالم المسلم إعجاب فائق من جماهير الحاضرين أو المتابعين , ويكون هذا النجاح وردة الفعل عليه طريق للافتتان نظرا لطبيعة النفس البشرية التواقة للمدح والثناء , ولا ينجو من مهالك هذه الفتنة إلا العلماء الربانيون , ولهم طرقهم الخاصة فى التصدى لحديث النفس والعجب , ومنها ما فعله الإمام الشعراوى رحمه الله عندما صادف فتنة الثناء بعنف , فقام على خدمة أحد المساجد فى يومه هذا لكسر الغرور قبل أن يتسلل لنفسه
خامسا : تعتبر المناظرات إهانة شديدة للعلم وشرف التعلم , حيث يتم استخدام العلم فى غير موضعه بالتنافس بين خصوم لا هدف لهم إلا الغلبة , كما أنه يضع العلماء فى موضع لا يليق بما أعزهم به الله من شرف العلم , وذلك عندما تراهم الناس يتناطحون كالديكة بينما جماهير مستمعيهم مستمتعة بالصراع !

ولهذا , حرم الإسلام المناظرات كأصل عام على العلماء , إلا عند الضرورة , ورحم الله السلف الصالح الذين أدركوا هذا جيدا فكانوا بالمرصاد لأى استفزاز أو فتنة يجرهم إليها أهل الأهواء ,
بينما يشهد عالم اليوم مئات البرامج المسماة بالحوارية وهى أبعد ما يكون عن الحوار , ويقوم منظموها بتعمد استضافة طرفي نقيض لمنح المشاهدين متعة المشاهدة , ونجحوا بالفعل فى غواية العشرات من العلماء والدعاة إما بالإغراء المادى أو بالتلبيس عليهم وخداعهم باسم تبيان الحق , وإما باللجوء للاستفزاز الشخصي عن طريق اتهام العالم بالجبن والخوف من الحوار , فينزلق ويشارك
مع ملاحظة شديدة الأهمية أن هذا المقياس لا ينطبق على البرامج الحوارية التى تهدف لبيان باطل استشري كفتنة الشيعة الرافضة مثلا , فتلك فتنة أطلت على عالمنا المعاصر بشدة بعد ثورة الخومينى وكادت تزيغ أوطانا لم تسمع بهم ولا تعرف عن بدعهم شيئا مثل مصر ودول المغرب العربي فوجب عندئذ أن تقوم الجهود المناهضة لما تفعله الثورة الإيرانية منذ قيامها واعتمادها المبالغ الضخمة لنشر التشيع
لهذا انقلب المحظور واجبا فى تلك الحالة بعد أن تحقق شرط انتشار الفتنة أما فى غير الانتشار فهنا يعود الأصل
ولو تأملنا سيرة العلماء الكبار فى الماضي سنجد أنهم يهربون من المناظرات كما يفر السليم من الأجرب , تحاشيا للفتنة , وقد قدم الإمام البخارى سلطان المحدثين على أحد البلاد , وكان معروفا بدقة حفظه كما وكيفا , وقد صنف كتابه الجامع الصحيح واحتوى أربعة آلاف حديث تقريبا من قرابة نصف مليون حديث كان يحفظها بالمتن والسند حرفا .. حرفا
فعمد بعض طلبة تلك البلد التى زارها إلى مجموعة من الأحاديث فقلبوا المتون وعكسوا الأسانيد ثم طرحوها على البخارى فى حلقة درسه طالبين منه بيانها اختبارا له أمام حشد هائل من الناس قدموا من كل صوب لرؤية معجزة زمانه
فأدرك البخارى على الفور أنهم يهدفون لاختباره فحسب وليس سؤالهم للعلم , فلم يجب , وانتظر حتى فرغ المسجد تقريبا من الناس ثم التفت إلى من سألوه واحدا تلو الآخر فصحح كل الأحاديث التى أتوا بها ورد كل متن إلى سنده ,
والمتأمل فى هذا التصرف يدرك كيف كان هؤلاء العلماء ربانيين بحق فلم يهمه أن يقول الناس عجز البخارى بل كان همه ألا يضع العلم موضع الزهو والفخر

وبقي أن نلفت النظر لحقيقة هامة للغاية , حتى لا يظن أحد أن الإسلام حرم المناظرات فى المطلق خشية أو خوفا ,
فالشاهد لكل أحد شرقا وغربا أن الإسلام هو الرسالة الوحيدة التى حظت بكم من الشبهات والمحاربات الفكرية لم يحدث عشر معشارها مع غيرها من الرسالات ,.
والإسلام بمنهجه السنى القويم هو العقيدة الوحيدة التى فتحت الباب لأعدائها على مصراعيه تحديا أن يأتوا بآية مثل آيات القرآن أو يفندوا قولا واحدا من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام
وقد اتضح لكل المحاربين من المستشرقين وغيرهم مدى ما تمتعت به العقيدة الصحيحة من رسوخ تأكيدا لحقيقة أن تحريم المناظرات لم يكن عن خوف بل عن رفعة وحشمة , وتفاديا للجدل غير الموضوعى والدليل على ذلك أن الشبهات الموضوعية المنتشرة اهتم بها العلماء كأمر واجب شديد الوجوب طالما كان فى فائدة
وعطاء العلماء والمفكرين فى مناظراتهم للرد على شبهات المستشرقين والملحدين والمبتدعين وغيرهم أكبر من أن تحصي
ليس هذا فقط ,
بل إن الإسلام هو العقيدة والفكر الوحيدين الذين تمثلت فيهما الشبهات كدافع لزيادة اليقين لا الهدم , حيث أن الشبهات حفزت العلماء على استقراء وفهم النصوص والتعمق فيها أكثر وأكثر
ووجب التنبيه على ذلك حتى لا يظن الناس أن تحريم المناظرات معناه السكوت عن الشبهات , وإنما يأتى السكوت عندما تنتفي شروط الوجوب فى الرد كما سنراها

شروط المناظرات
وقف أحد الدعاة على المنبر خطيبا مرغبا للناس فى ضرورة الحوار المفيد وأهميته فى الإسلام ,
ولما انتهى من خطبته فاجأه أحد الناس فى طريقه قائلا له “ ألست تدعونا للحوار والتبادل الحر ” فقال نعم
فقال له الرجل ” أريد أن أحاورك وأناظرك فى أن أمك تزنى !!! ”
من هذه الحكاية البسيطة التى حكاها العلامة المحدّث عدنان عرعور فى أحد برامجه , نستنبط فى سهولة ويسر متى يكون إغلاق باب الحوار والمناظرة معا جائزا ومطلوبا ,
وإلا فبالله عليكم لو أن الإمام ـ بطل الحكاية هنا ـ رفض الحوار والجدل المدعو إليه , هل هناك ثمة جبن منه وهروب !
فليس معنى أن تدافع عن الدين وتقف على حدوده أن تلتمس أقوال المخرفين ومن فى زمرة المجانين وتصنع منها قضية للرد
وشروط المناظرات والمشاركة فيها شروط واضحة تنصرف كلها إلى وصف الشبهة المثارة وأهميتها

ويجب أن تتوافر تلك الشروط جميعها لكى يكون على الباحث أو المفكر أو العالم الهب للذود عن دين الله وتلك الشروط نجملها بما يلي ..
الشرط الأول : أن تكون القضية أو الشبهة المثارة تفشت بين الناس وانتشرت ويُخشي منها لانتشارها أن تتسبب فى فتنة للناس , وعلة هذا الشرط واضحة للعقلاء حيث أن الشبهات التى لم تكتسب صيغة الإنتشار بأى وسيلة إعلامية إذا قام العلماء بتناولها والرد عليها سيجدون أنفسهم قد وقفوا ضد ما يدافعون عنه دون أن يدرى أحدهم , وذلك أن الشبهات التى يثيرها المتنطعون وفاقدو الأهلية الذين ليس لهم من الشهرة والقدرة على الوصول للناس شيئ ,
هؤلاء إنما يلجئون للطعن فى الدين ـ ولو عن طريق انتحال شبهات قديمة وإعادة بثها ـ لكى يكتسبوا الشهرة اللازمة , فلا تجد شبهاتهم إلا فى صحف صفراء منعدمة الوجود فى الوسط الصحفي أو فى كتب مجهولة
فإذا ما تابعهم العلماء على ذلك وأرغوا وأزبدوا ردا عليهم ساهموا ـ دون وعى ـ فى تحقيق أهداف هؤلاء القوم وساهموا أكثر فى إعطاء شبهاتهم صفة الانتشار التى ما كانت تتحقق لو لم يتصدى لهم العلماء
فإذا لم تكن الشبهة منتشرة ومتكررة فى عدة من وسائل الإعلام كانت إثارتها إحياء للفتنة لا إخمادا لها
والأمثلة على ذلك أكبر من أن تؤذن بحصر , لأن هذا الداء مع الأسف الشديد أكبر ما تعانيه الأمة اليوم , وللإعلام المغرض الذى لا يهدف إلا للإثارة دور كبير فى ذلك , ولكن دوره يظل قاصرا دون دور الذين أعطوا قيمة لمن لا يستحق فقبلوا أن يحاوروهم أو يردوا عليهم وخصومهم من مثيري الفتن لا يمثلون مقدار ذرة من القيمة
مثال ذلك ما يفعله البعض من الباحثين من تحرى الشبهات فى كل موطن معروف أو غير معروف والإتيان بها للصحف والبرامج والفضائيات ونشرها بين الناس تحت زعم الرد عليها
وكل هذا بهدف الظهور وتزكية النفس أو تحت تأثير الحماقة وعدم الإدراك

الشرط الثانى : أن يكون صاحب الشبهة ممن له اعتبار بين الناس سواء كان هذا الإعتبار فى مكانه أو لا , بمعنى أن يكون المتكلم بالشبهة له نصيب من الانتشار أيضا ,
وذلك أن فاقد الأهلية الجماهيرية لا يعتد بقوله بطبيعة الحال , فإذا ما جاء مجهول وقال ما قال ما الذى يمكن أن يمثله من قيمة تستحق إعطاءه ذرة من الاهتمام ,
مثال ذلك صبيان العلمانية المنتشرين فى وزارة الثقافة بمصر وآخرين من ذوى العربدة فى بعض الدول العربية والإسلامية

وأكبر دليل على قولى هذا , ما فعله أحد هؤلاء الصبيان فى إحدى الصحف حيث كان يتعمد أن تتصدر صحيفته عناوين هى قمة فى الإستفزاز طمعا فى أن يلتفت إليه أحد ويشتمه أو يسبه أو يرد عليه فيقتات على الردود , وظل هذا الصبي لأعوام يحاول حتى إذا نشر ذات مرة أن الحائض يجوز لها الصلاة , قامت إحدى أساتذة الفقه بالرد عليه فإذا به أخذ ردها عليه ونشره فى صدر صحيفته داعيا بفرح شديد إلى أنه يتمنى أن تتكرر الردود بدلا من أن يظل هكذا يؤذن فى مالطة !!!
وطبعا لا يخفي عليكم مدى حماقة هذا العلمانى الذى يعلن هدفه للناس فى وضوح وفى غباء منقطع النظير ويوضح لهم أنه لا يكتب عن قضية إذ أنه لم يدافع ولم يعقب أصلا وإنما ترك القضية برمتها واكتفي بالرد الذى جاء إليه وهلل به

الشرط الثالث : أن تكون القضية أو الشبهة المثارة ذات موضوع ,
وتلك أخطر النقاط على الإطلاق , فقد رأينا فى المثال الذى سقناه للخطيب الذى تحدث عن الحوار كيف أن الرجل الذى جاء يجادله طرح على مائدة البحث قضية هى من قبيل السفسطة وحسب ,
فيجب أن تكون الشبهة متوافرة بمفهومها وأركانها من حيث أن أنها قول مسبوك وطرح محبوك يندر أن يعرف حقيقته إلا المتخصصين ويجهله العامة ويتسبب فى إثارتهم

وهذا أمر طبيعى لأن الشبهة لو لم تكن شبهة وكانت مجرد قول كفري فاسد ما كان لها أن تمثل أدنى خطورة على الناس ,
ومثال ذلك عشرات الأقوال التى تخرج من بعض المخرفين وهواة الشهرة وتضرب فيما هو معلوم من الدين بالضرورة ضرب ناطح الصخرة ليوهنها , فتلك إنما هى أقوال تستحق الثورة والإنكار فحسب أما طرحها والاهتمام بالرد عليها فهو تصرف أكثر حماقة من تصرف قائل الشبهة المدعاة
مثلا ,
ما الذى يمكن أن يمثله مراهق فكرى مثل جمال البنا عندما يخرج على الناس بقوله أن الإسلام يبيح تعدد الأديان أو أن السجائر يجوز للمسلم تدخينها فى رمضان فهل هذه الأقوال تستحق من عالم واحد أن يكلف نفسه للرد عليه حتى لو كان لجمال البنا قنوات وصحف تهتم بتخاريفه , ؟!
كلا بالطبع لأن أقواله إنما هى أقوال مرسلة منعدمة الحجية والدليل ولا علاقة لها بالعقل ولا النقل ,
وصاحبها ـ كما سبق القول ـ لا يكون الرد عليه بالمناظرة والمحاججة , بل يكون الرد هو الغضب والثورة لإبطال إفكه بشتى وسائل الاعتراض من عامة الجماهير
لأن هؤلاء لا يكون الرد عليهم من العلماء بل هو من العامة أما العلماء فوقتهم يجب أن يكون محفوظا للشبهات الحقيقية

الشرط الرابع : عندما يبادر العالم لمناظرة خصمه , سواء كان فى مناظرة كتابية كأن يرد العالم على مقال بمقال أو كتاب بكتاب أو مناظرة مباشرة كالتى تحدث فى المنتديات والفضائيات , فيجب أن ينتبه العالم إلى ما يلجأ إليه خصمه لا سيما إن كان الخصم من مبتدعة الرافضة أو ذيول العلمانية , وداعى الإنتباه أن هؤلاء ـ لانعدام أى حجة لديهم ـ لا يبادرون لمناظرة جادة أبدا ويعتمدون على المشاكسة وضياع الوقت
وكثيرا ما ينزلق العلماء لذلك فتجده العالم المدافع ينساق وراء صاحب الشبهة الذى يتجاهل ردود العالم على شبهته الأصلية ويهب ليأخذ من هنا وهناك ويثير العديد من الشبهات الأخرى التى يتعمد أن تكون شبهات تحتاج وقتا للرد عليها ,
وهذا الأسلوب يشغل العالم المدافع عن نقطة البحث الأصلية ويجعله دائما فى موقف الدفاع , لهذا فالواجب ألا يسمح لخصمه بالهروب من نقطة البحث الرئيسية وكلما حاول خصمه الهروب أجبره على الرد عليه أولا قبل أن ينتقل لأى نقطة أخرى
والأمثلة على ذلك كثيرة
فمثلا فى مناظرات قناة المستقلة حول سيرة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه , لجأ الفريق الشيعى لتمويع البحث بكل وسيلة طمعا فى أن ينصرف فريق السنة عن النقطة التى رفضوا الحياد عنها ألا وهى سيرة جعفر الصادق ومدى تفشي المكذوبات عليه من الرافضة الإثناعشرية
فتارة يثيرون شبهات حول البخارى وتارة يتحدثون عن بنى أمية وتارة يتحدثون عن أنظمة الحكم المعاصرة
إلا أن فريق السنة ممثلا بالشيخ عثمان الخميس ومحمد سالم خضر وعائض الدوسري كانوا أبطالا فى الانتباه لتلك المراوغات فتركوا ذلك كله وأصروا على تذكير المشاهدين يوميا بأنهم يتحدثون عن سيرة الصادق وخصومهم يتهربون
وأيضا العلمانية ,
فهؤلاء أساتذة فى فن المراوغة والهروب , وأقوالهم تبطل بقضية واحدة يجب على كل من يناظرهم أن يتمسك بها وهى أن يصر المناظر على أن يجيبوه ,
هل يؤمنون بالله خالقا ورازقا ومشرعا لعباده أم يؤمنون به خالقا فقط ؟!
فلو أجابوا بأنهم يؤمنون فقد انتهت أقوالهم إلى الأبد , فطالما أنه المشرع فلا قول بعد قوله ولا حكم بعد حكمه
ولو أجابوا بالثانية , فقد خرجوا حكما من الإسلام مما يتسبب فى سقوط حشمتهم أمام عامة المتابعين الذين لن يقبلوا منهم صرفا ولا عدلا , مهما أثاروا من شبهات ومهما قالوا من ترهات

الشرط الخامس : وهو شرط العزة والكبرياء الواجب توافره فيمن يتصدى لمناظرة أهل البدع أو الإلحاد ومروجى الانحراف ,
فمما نلاحظه كثيرا أن بعض علمائنا ودعاتنا تجدهم يعطون الدنية فى ديننا ويظهرون بمظهر الضعيف الذى يحاول بكل وسيلة أن يبرر أمرا يخجل منه !
وتلك قمة فقدان الثقة والإيمان
فلست أدرى كيف يمكن لصاحب الحق أن يخجل من ندائه أمام صاحب باطل ينادى بباطله دون حياء ؟
وكيف يستحى عالم من الحديث عن وجوب لزوم النساء الحشمة أمام راقصة تقول أن إخلاصها بمنتها يجعلها قمة العبادة !
وليس فى ديننا شيئا نخجل منه بل الذى يجب عليه الخجل هو من ينادى بحرية المرأة كستار لتحويل المجتمع إلى حانة دعارة منفتحة , أو من ينادى مستهزئا بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام ,
لهذا لابد للعالم الدافع من العزة والكبرياء فى تلك المواجهات بل ويجب عليه الفخر والكبر على أصحاب الباطل إذا كانوا من أصحاب الإصرار على الفواحش , فالكبر على أهل الكبر صدقة
يقول الله عز وجل واصفا المؤمنين ” أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين

ورغم أن الكبر محرم قطعيا فى الشريعة إلا أنه مباح فقط فى مثل هذه المواضع
فمما يؤثر من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال يوم بدر ” من يأخذ هذا السيف بحقه
فسألوه وما حقه يا رسول الله , فأجاب عليه الصلاة والسلام ” أن تضرب به المشركين حتى ينحنى
فأخذه يومئذ أبو دجانة الأنصاري وقام من فوره فأخذ عصابة حمراء وعقدها على جبينه وكان مشتهرا بها بين الأنصار الذين هتفوا قائلين ” أخرج أبو دجانة عصابة الموت
وكان أبو دجانة رضي الله عنه لا يخرجها فى معركة إلا ويصر على النصر أو يهلك دونه
وفى وقفته , مد أبو دجانة سيفه ومشي به رويدا فى اختيال فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام
إنها مشية يكرهها الله ورسوله إلا فى هذا الموضع

وللبحث بقية

تعلم كيف تواجه .. وتعلم كيف تناظر ” 1 “

التعليقات مغلقة

ما الفارق بين الجدل والحوار ؟! وهل تدخل المناظرات تحت باب الجدل أم باب الحوار ؟
هل الدخول فى المناظرات فرض أم ضرورة لها شروط ؟!
ماذا نفعل ككتّاب عندما هجوما على الإسلام , هل نرد أم نصمت أم ندخل فى مناقشة ؟!
كيف يمكن أن يصبح الرد على الهجوم أسوأ أثرا على الإسلام من الهجوم نفسه ؟!
وكيف يمكن أن يصبح طريق الجنة .. طريقا إلى النار دون أن ندرى ؟!

حول إجابة هذه الأسئلة يدور الموضوع العاشر من سلسلة ” تعلم ..”

تعلم كيف تواجه ,, وتعلم كيف تناظر

مما يؤثر عن أحد علماء الهندسة أسلوبه المتفرد فى مواجهة مشاكل عمله , فعندما يواجه جهازا معطلا لم يكن يدخل مباشرة إلى أسباب العطل ومكانه بل يتجاهلهما تماما و يعيد تفكيك الجهاز بأكمله ويبدأ فى تركيبه حسب تصميمه الأصلي من جديد , وكلما يصادف خللا أثناء إعادة التركيب يصلحه ويستمر
بهذا الأسلوب لم يستعص عليه عطل فى جهاز أو يحيره ,
لأنه أحال الظاهرة للأصل وبدأ الحل من الجذر
وما فعله العالم فى المجال العملى نحن مطالبون به ـ من باب أولى ـ فى مجالنا الفكرى والذى يعتبر أخطر مجالات العلوم الإنسانية على الإطلاق , فبالفكر وحده وعلى أساسه وقعت كوارث العالم أجمع وكذلك تم إصلاحها بالفكر
ولا عجب فى ذلك لأن الاعتقاد الفكرى هو المحرك الرئيسي لنشاط الإنسان فإن كان فكرا خيرا أنتج خيرا وإن كان شرا أنتج مثله
وبالاعتقاد الفكرى والعقدى نشأت دولة الإسلام كإحدى معجزات الحضارة الإنسانية فى بضع سنين بهداية الوحى التى استقبلتها عقول أحسنت التفكير فعرفت نداء السماء وأجابته , ولم يحدث التخلخل إلا عندما بدأت الفرق فى الظهور فتغير الإعتقاد وفقد طلاوته الأولى التى نزل بها غضا على المحجة البيضاء , وعندما تغير الاعتقاد وأصبح مدخولا بفروع شيطانية غريبة على الجذر الأصلي بدأت الحروب والفتن واستمرت ليومنا هذاوعبر تاريخ الإسلام البالغ الثراء دارت رحى المعركة بين الأصل والفروع , وظهرت فى فترات متقطعة من العصر الإسلامى الوسيط دول إسلامية أعادت رونق الخلافة معتمدة على مبدأ العودة للأصل وهو المبدأ الذى كفل لها النجاح لأن غياب الإصلاح الفكرى أولا هو سبب حتمى للفشل فيما بعد
وهذا المبدأ , مبدأ سماوى خالص عبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام فى غير موضع من أحاديث الفتن وخصه بالجانب الأعظم من وصاياه ولم يفتأ يكرره على مسامع الصحابة ومثال ذلك قوله عليه الصلاة والسلام
إن من يعش بعدى سيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ
وقوله أيضا ” لقد أتيتكم بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك
ولهذا كان المصلحون فى كل عصر يرفعون لواء العودة للأصل طارحين كل البدع المحدثة التى دخلت على دولة الإسلام فنجحت حركات الإصلاح لهذا السبب والمتأمل فى تاريخ الإسلام يجد أن كل أزمة مستعصية عصفت بالدولة كانت مبنية على اعتقاد فاسد مخالف للأصول
من أول فتنة الخوارج أول وأعظم فتنة إلى يومنا هذا حيث فتنة المذاهب الإنسانية المختلفة

ولأن الإتجاهات المعادية للإسلام ـ بعد دراسات المستشرقين المتعمقة ـ عرفت أين يقبع المقتل ركزت همها وجهدها عل ضرب الأصول بأى وسيلة , فلما عجزت , وظل القرآن محفوظا بحفظ الله وانبري علماء السنة فاستأصلوا شأفة الأحاديث الموضوعة وعزلوا القسم الصحيح وحفظوه , لم يجدوا أمامهم حلا إلا ضرب علاقتنا بتلك الأصول !

وهذا الأسلوب استمر أيضا إلى اليوم حيث تركز الدول العظمى والحركات الفكرية المضادة فى بلاد الإسلام على مبدأ رئيسي وهو تعقب أى نداء يظهر فيه ولو طرف شعرة من العودة للأصول , ويتم محاربة هذا الجانب بكل الوسائل بداية من التدخل العسكري كما فعلت الولايات المتحدة فى حربها المزعومة ضد الإرهاب إلى الغزو الفكرى الذى رسخ عبر قنوات إعلامية محترفة اعتقادا جازما بأن كل من ينادى بالعودة للأصول هو متخلف إرهابي ,
وأصبحت من قبيل الثقافة العامة المنتشرة أن يتم السخرية من كل متحدث بالعربية الفصحى أو من كل من ينوه عن شخصية تاريخية تحمل شبهة إشادة بتاريخ الإسلام رغم أن الغرب لم يقطع صلته بتاريخه المشوه مطلقا , بل جعل منه مادة خصبة على موائد الإعلام حتى لو كان تاريخا أسطوريا لا يمت للواقع بصلة ,

وبينما يفخر الغرب بزينا وهركليز وأخيل ونبوءات نوستراداموس , ولا يجد حرجا فى ذلك , أصبح مفكرونا ومثقفونا يجدون حرجا إذا استشهدوا بقول لأبي حنيفة أو الشافعى أو نقلوا رأيا فكريا للسيوطى أو الأشعري
هذا فضلا على التدخلات السياسية التى لا تهمل أدنى صعود للتيار الإسلامى السلفي فى أى مكان بالعالم الإسلامى فيبدأ الضغط على الفور بالوسائل العلنية والسرية لخلق حرب عداوة بين الأنظمة وبين تلك التيارات حتى لو كانت تيارات فكرية محضة لا تتعرض للأنظمة ولا تتدخل بالشئون السياسية وتكتفي بإحياء التراث فحسب
ولنا أن نتأمل الضربات الأمنية القاصمة التى يتعرض لها تيار الإخوان المسلمين أو جماعة أنصار السنة بمصر والمحاربة الإعلامية المصاحبة لذلك ونقارن هذا كله بالدعم الكاسح التى تحظى به الطرق الصوفية سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الدعم الخارجى المهول

فالطرق الصوفية بمصر لم تحصل فقط على الوجود الشرعي باعتماد المجلس الأعلى للطرق الصوفية مجلسا عاما تابعا للدولة , بل هناك دعم سنوى للمجلس فضلا على أن رئيس المجلس فى البروتوكول السياسي مساوى لمكانة شيخ الأزهر سواء فى الراتب أو المعاملة
هذا خلافا لسكوت الدولة عن الدعم المادى الخارجى الذى جعل من مجلس الطرق الصوفية مؤسسة تتجاوز ميزانيتها ثلاثة أرباع مليار جنيه ,
وتحاط الإحتفالات الصوفية بالحماية الأمنية على أعلى مستوى رغم أنها تتجاوز ثلاثة آلاف حفل سنويا تحميه الشرطة حماية كاملة , وبأحدث الوسائل
فضلا على الدعم السياسي الخارجى الذى يجعل سفير الولايات المتحدة السابق بمصر يحرص على حضور مولد السيد البدوى بطنطا ! وتخلفه مرجريت سكوبي فى ذلك
وإذا تأملت الحروب العلمانية مثلا على الإسلام والفكر الإسلامى لا تجد منهم أدنى إشارة بالانتقاد للفرق البدعية كالصوفية والمعتزلة الجدد “ العصرانيون ” على سبيل المثال رغم وجود المبرر البالغ القوة لذلك والمتمثل فى كل هذه الإمكانيات المهولة لمجرد تغييب الناس

ولهذا يبدو غريبا جدا أن تثور ثائرة العلمانيين لمحاضرة يلقيها عالم أو فقيه ويهملون فى نفس الوقت هذا البذخ والسرف وتعطيل مصالح الدولة مع الصوفيين
ومن أوجه الغرابة ـ اللافتة للمتأمل بعيد النظر ـ أن السلطات الرسمية والغرب متمثلا فى الولايات المتحدة رغم أنه لا يطيق ذكر الإسلاميين , إلا أنهم يتناسون هذا تماما مع الطرق الصوفية على نحو يجعلنا نتساءل ,
لو أن الطرق الصوفية ـ كما يرجون لها ـ تمارس نشاطا إسلاميا عارما فلماذا يواليها المعادون للإسلام ويسكتون عن تصرفات لو لاح ريحها مع فقيه لكان مصيره وراء الشمس
والقانون الأمنى الذى يمنع التجمهر لما يزيد عن عشرين شخصا نجده مع الصوفيين يحمى ويوالى تجمهرا من عشرين ألفا !
لكن ـ كما يقال ـ إذا عرف السبب بطل العجب ,

فإن الخوف كل الخوف ليس من الفرق البدعية التى حادت عن الطريق بل من أى نداء أصولى للبحث خلف المنبع , والغرب يستفيد من دروس الماضي جيدا ولم ينس بعد ما فعلته الأصولية الإسلامية بمنهجها البسيط فى الشيشان وأفغانستان وباكستان وأندونيسيا وفى حرب أكتوبر والآن فى العراق والصين
لهذا صارت حساسية الغرب وحلفائه تجاه كل بذرة إسلامية صحيحة ظاهرة واضحة بما لا يدع مجالا للشك ,
وإلا كيف يمكن تبرير الحروب الضارية التى تشنها الأجهزة الرسمية والدعايات الخارجية تجاه التوجه الإسلامى الصحيح وتعجن ذلك كله فى زمرة واحدة هى الإرهاب والعنف رغم أن تيار العنف تيار يختلف فى الأساسيات مع تيارات الإصلاح السلفي , والموجودون على الساحة الآن علماء ودعاة لا مقاتلين فلم كل هذا القلق وكل هذا الهجوم الذى ينال علماء المسلمين ودعاتهم وهم لا يطرقون السياسة ولا شأن لهم بالنشاط المضاد للأنظمة , ولماذا كل هذا الاتهام لأى كتاب أو كاتب يلمح ولو من بعيد لأصول الإسلام وترك التفرق ؟!
ولماذا كل هذا الترصد للإلتزام الدينى والسعى إلى طريق الله وانتقاد أى دعوة ولو كانت للفرائض الواجبة ؟!
ولماذا تثير اللحية الكثة فى وجه شاب سنى ذعر الأمن بينما اللحية الأخرى ـ على مذهب دوجلاس ـ تحظى بالقبول !

هذه هى صورة الساحة الآن ..
تيار عام تمثله الشعوب المجبولة فطريا على العقيدة الصحيحة , وتحاول الخروج من شرنقة الشبهات والمكايد الفكرية التى تغلق عليها رغبة التحرر الحقيقي من الغزو الفكرى
ووسيلتهم فى ذلك التماس العلماء والدعاة الواقفين على الحدود ـ وهم على قلة إمكانياتهم ـ وفقهم الله للوصول للقطاع الأعرض من الجماهير المتلهفة لهم , وليس أدل من ذلك ما نراه من احتفاء جماهير البسطاء بأى نصر اسلامى من أى نوع وتقديمهم نصرة الإسلام على نصرة الأوطان
وتيار خاص يتفرع إلى عدة توجهات تتفق جميعا فيما بينها على الهدف وتختلف فى الوسيلة وتمثله الحروب الفكرية الخارجية والأفكار الدخيلة التى تمتلك ناصية الإعلام
ولأن كل توجه من هؤلاء يهدف لقتل أى صحوة فى مهدها , فإن كل منهم اتخذ بابا معينا يطل من خلاله على الناس أملا فى تشتيت جهود الدعاة والعلماء , وفى كل باب من تلك الأبواب تستعر حرب فكرية ضارية كجبهة مستقلة عن الأخرى وما أكثر الجبهات وأسلحتها من الشبهات

هذه الحروب الفكرية تتنوع بين المناظرة وبين الحوار ,
ولأن القاعدة المتفق عليها فى أى قضية هى ضرورة العودة للأصل ومناقشة الأمر من المنبع ,
فكان لزاما أن نتعرف عن الفوارق بين الحوار وبين المناظرات , وأنواع كل منهما , والضوابط التى حددتها الشريعة فى هذا الشأن باعتبارها المقياس الأول والأخير للعمل والتطبيق
ولأننا أصبحنا بالفعل فى عصر الفتن ,
فقد اختلطت الخيوط كثيرا وتسللت إلى القضايا الجوهرية قاعدة المثل الشعبي الشهير ” هات من الآخر ” وهو قول يضاد كل منطق حتى منطق اللهو والعبث لأن البدء بالنهاية يجعلك تدور فى دائرة مفرغة لا تصل لحافتها أبدا
وهو ما يحدث بالفعل الآن فتحت اختلاط المفاهيم اضطربت الصورة بشكل ضبابي أمام عامة الناس بل وأمام الباحثين الذين تعجلوا ـ بدافع الغيرة ـ الدخول لساحات المعارك قبل معرفة ضوابطها فكانت النتيجة أن أصبح عالم اليوم عبارة عن مسرح كبير للجدل الفارغ لا تكاد تخرج منه بفائدة إلا كما يخرج فم العصفور من ماء البحر

كيف تواجه , وكيف تناظر يغيب عن بال الكثيرين أن الحوار والجدل من أكثر القضايا التى تناولها التشريع الإسلامى بالتنظيم والضبط , وذلك أن القاعدة النبوية تقول أن الباب الذهبي للفتن العمياء الصماء هو الجدل وما من قوم يظهر فيهم إلا وجاز لنا أن نكبر عليهم سبعا
ولنا فى أمثلة القرآن الكريم أسوة وعظة , فالجدل هو الذى أضاع بنى إسرائيل الذين اصطفاهم الله وفضلهم فلم يحسنوا ذلك وكانوا أولى جدل شديد فحاق بهم الغضب ,
وتروى سورة البقرة قصة قتيل بنى إسرائيل وطلبهم من موسي أن يحل القضية فجاء الوحى بأن اذبحوا بقرة , وبدلا من أن ينفذ بنو إسرائيل الأمر بلا تنطع , فارت طبيعة الجدل فى أعماقهم فإذا بهم يجادلون موسي ويتهمونه أنه يسخر منهم فلما أوضح لهم تمادوا فى الجدل وطلبوا الإيضاح لأمر هو واضح وضوح الشمس
ولو أنهم ذبحوا أى بقرة لأدوا بذلك أمر الله وانتهت المشكلة , لكنهم جادلوا فضيق الله عليهم

وقضية الحوار والجدل والفارق بينهما أصل من أصول الإسلام أرساها القرآن وبينتها السنة , بينما يجهل الكثيرون أن هذا المجال ليس أمرا متروكا بلا ضابط فيحق للإنسان أن يجادل بلا حرج , ويتصورون الجدل ـ لا الحوار ـ أمرا شخصيا متروك للحرية الفردية بينما هو فى الأصل منظم تنظيما شاملا ,
وأول القواعد فيه أن الأصل فى الجدل هو المنع والحظر , بينما الاستثناء هو السماح به ويتضح ذلك من خلال النصوص النبوية ومنها ما قال فيه عليه الصلاة والسلام
أنا زعيم ربض فى الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا
أى أن الأصل فى الإسلام منع المراء وكثرة الأخذ والرد بلا طائل لأن الجدل فى أغلب أحواله يورث البغضاء والإسلام جاء مؤلفا للقلوب وهذا كحكم عام يسري على عامة المسلمين وخاصتهم , لدرجة الترغيب فى تركه للحد الذى جعل النبي يبين مكانة تارك الجدل المحق بربض فى الجنة زعامته للنبي عليه الصلاة والسلام , فما بالنا بالمنغمس فى جدل الباطل

والاستثناء فى الجدل لا ينطبق فى أى حال من أحواله على العامة أو غير المتخصصين ,
بمعنى أن الجدل والمراء محظور مطلقا على عامة الناس وخاصتهم , ومسموح فى حالات معينة للخاصة فقط من العلماء والمفكرين وطلبة العلم
وهذا أمر طبيعى , فالاستثناء المسموح به فى الجدل هو ما نعرفه باسم المناظرات , والمناظرات لا تكون إلا بين طرفين من أهل الاختصاص
ـ فالمناظرات معركة لها طرفان مؤهلان كل منهما على نقيض الآخر ومن غير الوارد أن يلتقي فيها أصحاب وجهة نظر واحدة ,
بينما الحوار لا يدخل تحت نطاق الجدل لأنه أحد ضروريات الحياة الإنسانية فى الإسلام , ويمكن تعريفه على أنه المناقشة التى تجمع بين أطراف معينة فى قضية ما سواء كانت قضية علمية أو اجتماعية أو طرح حل لمشكلة خاصة , وكل هذا واجب فى الإسلام حيث حث عليه فى أى قضية خلافية تجمع بين أبناء الدين الواحد ولو كانت فى شاة أو بعير

ونظرا لأهمية الفارق بين الجدل والحوار .. أو بين المناظرة والحوار .. لابد أن نتعرف تلك الفوارق لا سيما وأن غياب الفوارق كان سببا مباشرا فى أحد أكبر ظواهر انتشار الجدل العتيد على نحو ما نرى فى مجتمعاتنا حتى لا تكاد تخلو فئة ـ مهما علت فى مستواها الفكرى ـ من هذا الداء
والعلاقة بين الحوار وبين الجدل علاقة تنطبق عليها الحكمة القائلة ” إذا زاد الشيئ عن حده انقلب لضده ” فالحوار مطلوب ومرغوب طالما كان منتجا , لكن عندما تنتهى الفائدة وتنسحب
ويظهر الأخذ والرد الفارغ الذى يعيد الكلام ويزيده فى نفس المضمون , هنا ينقلب الحوار جدلا محرما

وهذه الفوارق يمكن تلخيصها فيما يلي :
الأول : الأصل فى المناظرات المنع والتحريم , بينما الأصل فى الحوار الوجوب والفرض أى العكس تماما , وفى القرآن الكريم كان الجدل والمحاججة هو المعبر اللفظى عن التناظر بينما الشورى والتحكيم والسؤال هى مرادف الحوار

الثانى : المناظرة هى مواجهة فكرية بين طرفي نقيض يعتنق أحدهما فكرا يضاد الآخر فى نفس المجال , ولهذا سميت مناظرة أى معركة بين نظيرين ,
وليس متصورا أن يلتقي فى مناظرة طرف مؤيد لفكر معين وطرف آخر محايد مثلا , وهدف المناظرة الأصلي هو بيان أى الفكرين أولى بالحق , وليس واردا فى المناظرات أن تنتهى بوجهة نظر وسيطة تقارب بين المنهجين , بل تكون النتيجة إما ظهور لأحد الطرفين وإما تعادلهما وكل منهم على منهجه كاملا , كما أن هدف المناظرات لا يكون انضمام طرف إلى طرف , فهذا يحدث على سبيل الاستثناء , إنما الأصل فى المناظرة تجلية الحق لمن يشاهدها من الحضور ,
ومثال المناظرات ـ كما ورد بالقرآن ـ مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمروذ , ومن الحياة العملية مناظرات العلماء والمفكرين لأصحاب الملل الأخرى وأهل الإلحاد ومناظرات الفرق المنشقة عن الإسلام بنوعيها , الفرق الداخلة تحت مفهوم الشهادة والفرق الأخرى الخارجة عن نطاق الإسلام وحكم هذه المناظرات واجب بشروط سيأتى بيانها

أما المناقشات العلمية بين العلماء والفقهاء فى مجال الاجتهاد فتلك لا تقع تحت مفهوم المناظرات بل يضمها مفهوم الحوار ,
لأن الأصل فى العلم التكامل لا التناحر , والمناظرات بطبيعتها لا تتكامل أطرافها بل تتناقض , ولهذا فعندما انتشرت المناظرات الجدلية بين علماء المذاهب تفجر التعصب وفسدت أخلاق الناس إلى درجة تكفير أنصار كل مذهب للمذهب الآخر تحت تأثير الغلو فى التعصب لمذهب معين ,
أما الحوار فهو لا يشترط طرفين بل يكون لأى مجموعة من الناس فى أى مجال ومع اختلاف مستوياتهم العلمية أيضا و فمن الممكن أن تجتمع حلقة نقاش وتدارس بين عالم وطلبة علم ويدور فيها النقاش حول مسألة معينة , أو يجتمع عالم أو أكثر مع بعض العامة , وهذا خلافا للمناظرات التى لا يخوضها إلا أهل الإختصاص وحدهم وإلا انقلبت عبثا
كما أن الحوار يكون الهدف منه هو الإفادة والاستفادة بتكامل وجهات النظر لا بتناحرها كأن يجتمع أهل العلم فى بحث أمر معين من أمور المسلمين والخلوص فيه برأى , والحوار أيضا هو طريق حل النزاع الغير وارد فيه حكم بيّن , مثال ذلك إرسال حكمين من أهل الزوج والزوجة لبحث مشكلاتهما قبل أن تفضي للطلاق ,
والحوار ضرورة من ضرورات العلم , بينما المناظرات ناقض من نواقضه , لأن الحوار يكون للفهم والاستيعاب لا البيان والإقناع لطرف خصم , وعندما سؤل بن عباس كيف بلغت العلم , قال : بلسان سؤول .. وقلب عقول , وهذا يوضح كيف أن طالب العلم النابه هو الذى لا يتوقف عن الحوار والسؤال كلما أتيحت له فرصة الاستزادة

الثالث : الأصل فى المناظرات الخصومة والاختلاف العميق , بينما الأصل فى الحوار التماسك والترابط , وبينما تكون المناظرات ذات طابع علنى ـ وإلا فقدت هدفها ـ يكون الحوار ذو طابع خاص بين أهل القضية وحدهم

الرابع : الأصل فى المناظرات ـ المنظمة غالبا ـ وجود محكم محايد يكون حكمه وتوجيهه سار على الطرفين , لأنها معركة فكرية , فيجب وجود منظم لها وإلا انفلتت تماما , فيكون الحديث محددا بوقت ملزم للطرفين , كما أن المحكم يمارس دوره فى إظهار طرف على آخر ويلجأ إليه كل طرف لإجبار الطرف الآخر على عدم التهرب من أى سؤال
بينما الحوار لا يعرف هذه الأشياء وتسير أموره بشكل ودى تماما ,

الخامس : الحوار ينتهى بنتيجة جديدة لم تكن موجودة قبل طرحه , بينما المناظرات لا تقدم جديدا بل هى تعرض الأفكار فحسب مصحوبة بالحجج والبراهين والحكم للمستمع
السادس : الحوار له آداب معروفة يلتزم بها أطرافه , وفى باب العلم هناك فرع كامل يسمى آداب طالب العلم بين يدى شيخه , وغياب الأدب الواجب واحترام الأطراف لبعضها البعض يقضي على هدف الحوار والفائدة وينتهى إلى جدل عقيم
بينما الأصل فى المناظرات أنها بلا آداب ـ وهذا هو السبب الرئيسي لتحريمها ـ لأن ما يحكمها هو القانون الذى يرتضيه الطرفان ويطبقه الحكم , أما الأخلاق فتلك لا مجال للحديث عنها فى هذا الموضع ,
والفارق فى هذا الشأن بين الحوار وبين المناظرة , كالفارق بين تدريبات القتال التى يمارسها زملاء السلاح , وبين المتحاربين فى ميدان القتال
فبينما يكون التدريب على القتال بين الزملاء مجرد تدريب يخضع للرقابة ويكون أطرافه أكثر حرصا على بعضهم البعض من أنفسهم ولا يكون هدفهم النصر والغلبة بأى وسيلة بل يكون هدفهم النزال للدربة والمران ,
بينما القتال الحقيقي يلتقي فيه خصمان فى ميدان لا تحكمه إلا قوانين المواجهة ويكون هدف كل منهما هزيمة الآخر بكل وسيلة وأى وسيلة بما فيها المكر والخدعة
وهذا بالضبط ما يحدث فى المناظرات حيث تتلاشي نهائيا آداب الحوار وتعتبر ترفا مظهريا لأن الخصمان من الجائز جدا أن يكون كل منهما يري الآخر كافرا أو فاسقا أو مارقا من الدين وبالتالى فلا مجال للقول باحترام كل منهما للآخر , إلا إذا كانوا يستخفون بعقول الناس , فأى احترام هذا فى ظل اختلاف عقدى نتيجته الحتمية كفر أحد الخصمين ؟!

وليس المقصود بالطبع أن المناظرات يجب أن تحتوى سبا أو شتما ,
بل المقصود أن آداب الحوار كعدم السخرية من قول محاورك أو تقليل شأنه وعدم إحراج المحاور إذا أخطأ , إلى غير ذلك لا وجود لها نهائيا بالمناظرات , بل تمتلئ بعكسها , فيكون الخطأ فضيحة للطرف المخطئ وكذلك فضح الكذب والتدليس والتزوير وكلها أمور لابد أن تحدث بالمناظرات , وهذه طبيعة حتمية لأن الصراع بين الطرفين صراع بين حق وباطل , وهما متناقضان ولا يتصور أن يلتقيا

ولهذا عندما يتنطع العلمانيون ويتباكون على آداب الحوار عندما يقابلهم الباحثون والمفكرون والعلماء بالسخرية والشدة يتبدى جليا مدى الجهل الذى يحكم تصرفاتهم جميعا , فإن هذا الذى يتباكى على آداب الحوار يريد أن يطلب من محاوره المسلم أن يحترمه بينما هو يشكك بكل بساطة فى ثوابت الدين أو وجود الخالق أو عصمة الأنبياء أو نحو ذلك !

ومن الملاحظ بالطبع أن المتباكين على آداب الحوار لا يلجئون إلى التغنى بذلك إلا عندما تدور دائرة النقاش عليهم , مثال ذلك ما يفعله الشيعة الاثناعشرية عندما يبدءون العزف على وتر الوحدة الإسلامية فور اتضاح حقيقة مذهبهم أمام الناس
وفى أمر الدين بالذات لا يوجد شيئ اسمه الحيادية ,
فمعنى أن تكون محايدا فى حوار دينى هو أنك تقبل خلع ربقة الدين من عنقك عندما تحاور وكأنها سترة شتوية تخلعها فى يوم صائف
من هنا يتضح جليا مدى الخلط الواقع من العلمانيين بناء على جهلهم فإن الحوار مع مخالفك فى العقيدة لا يمكن أن يكون حوارا إلا لو كان مقبولا لدينا ـ كمسلمين ـ أن يسيئ المناظر الأدب مع خالقه , ثم أستقبل هذا القول منه فى برود وأرفع له القبعة احتراما له حتى يحترمنى ويسيئ الأدب مع الخالق عز وجل !
والأمثلة فى ذلك أكثر من أن تحصي ,
فعندما ناظر أحمد بن حنبل رضي الله عنه المعتزلة فى فتنة خلق القرآن لم يعترف لأحدهم بأهلية العلم ولا قبل الحوار معهم وما ناظرهم إلا مضطرا وما خاطبهم باحترام قط بل صرح بكفر قولهم ومن يقوله ومن تابعهم عليه ومن رضي به إلا مضطرا
كذلك عندما ناظر بن تيمية الفرق البدعية المختلفة كالشيعة الرافضة ممثلين فى بن مطهر الحلى صاحب كتاب منهاج الكرامة , قام بن تيمية بالرد عليه وتفنيد أدلته وتشريحها تشريحا فى كتابه ” الرد على بن المطهر الحلى ” وهو الكتاب الضخم المطبوع فى خمس مجلدات تحت عنوان ” منهاج السنة النبوية فى الرد على الشيعة والقدرية

ومن يطالع الكتاب يجد بن تيمية قد أسقط حشمة مُـناظِره تماما من أول سطر وتعقب أقواله الضالة ببيان ضلالها العميق مع السخرية والتقريع للجهل والتجهيل المتعمد من الرافضي
ولكن هذا كله فى إطار أخلاق الإسلام الوسطية التى لا تقر بالإحترام إلا لأهل القبلة , وأما غيرهم فلهم علينا عدم العداء ـ ما دام مسالما ـ وعدم الإيذاء لا بالفعل ولا بالقول ـ ما لم يكن قولا يصف شيئا هم عليه فعلا ـ إنما أكثر من هذا بخردلة فلا .. يقول تعالى
{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }

وبأشد من هذا تعاملت الملل الأخرى و الفرق البدعية مع المسلمين فلا توجد فرقة ظهرت فى المسلمين وانشقت عن أهل السنة والجماعة إلا وهى ترى سائر من خالفها فى بدعها كفار أو على الأقل مارقون من الدين الصحيح سواء عامتهم أم خاصتهم , أما الملل الأخرى كاليهود والنصاري فالقرآن أخبر عنهم أن كل منهم جزمت بالجنة لنفسها فقط وحجبتها عن الأخرى ومن باب أولى عن المسلمين

وبينما هم يصرحون بكفر واستحلال دماء المسلمين عامتهم وخاصتهم , ولا يكفر المسلمون منهم عموما أبدا إلا بعد توافر إقامة الحجة بل ويكفل الإسلام الأمان لأى مسالم ـ بعكسهم هم ـ نجد أن اتهامات الإرهاب لا تطول إلا المسلمين لو تجرأ واحد منهم فقال بقول القرآن أن اليهود والنصاري كفار مخلدون فى النار !

وتتبقي إشارة ضرورية إلى نوع وحالة خاصة من جدل المناظرات له ضوابطه الخاصة وهو الجدل الحسن والأحسن هو ذلك النوع من الجدل الذى يقع وسطيا بين الحوار والمناظرة , فيأخذ من الحوار صفة هدف الهداية ويأخذ من المناظرة المجادلة والمخاصمة والمفاصلة عند عدم الاقتناع ,
وهذا النوع يتم بين علماء المسلمين ودعاتهم وبين عامة أهل الملل الأخرى من أهل الكتاب , ولا شك أن هذا يختلف عن المناظرات من وجوه سنبينها فى موضعها , وشرطه الأساسي أنه مع عامة اليهود والنصاري لا علماءهم
وهذا النوع من الجدل محصور بكلامنا فى أهل الكتاب بنص القرآن الكريم , حيث يقول عز وجل
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن }
ويعود هذا إلى أن أهل الكتاب من اليهود والنصاري بيننا وبينهم مشتركات ليست هينة , فإنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر وبالرسل والقضية بيننا وبينهم هى الشرك بالله وإنكار النبوة
وتلك القضية هى التى تحفز على اتخاذ أسلوب خاص فى مجادلة أهل الكتاب مع ملاحظة هامة ,
أن الآية هنا تتحدث عن المناقشة مع أهل الكتاب بصفة عامة ويخرج من إطارها أولئك المحاربون لله ورسوله منهم , فليس كلهم سواء , فهناك من أهل الكتاب ـ كقاعدة عامة ـ ذميون أى لهم ذمة وذمار عند المسلمين وعهد بعدم الاعتداء
وهناك من لا عهد لهم ولا ذمة وهم المعلنون لحرب الله ورسوله والكيد للإسلام , فهؤلاء يخرجون من إطار الجدل الحسن إلى المناظرة عند الحاجة لرد الكيد , مثال ذلك مناظرات العلامة الراحل ديدات مع النصاري فى أكثر من موضع
ولا يكون على المسلم أن يبدأ أمثالهم بجدال أبدا , إذ أنهم محاربون , والحروب تكون للضرورة ولسنا مطالبين بالسعى لها إنما هى رد فعل على فعل
ويجدر التنويه هنا أن الجدل الأحسن مع أهل الكتاب , لا يعنى أن تتم معاملتهم فى تلك المجادلة بمعاملة المسلمين لبعضهم البعض فى الحوار , بل المقصود هنا ألا نجادلهم بنية بيان باطلهم فحسب بل يجب أن تتوافر نية هدايتهم لعل وعسي أن يهدى الله منهم أحدا
مثال ذلك عندما يصادف أحد علماء المسلمين ذميا , ويري أنه قابل للمناقشة والاقتناع , عندئذ مسموح له بمجادلته بالتى هى أحسن ومحاولة هدايته
وهذا يختلف بالطبع عن أسلوب المناظرات القائم على رد الكيد وبيان البطلان أمام حشد من الناس , بالإضافة أن الجدل الأحسن لا يشترط فيه مخاطبة علمائهم بل شرطه أن يكون مع العامة ابتداء نظرا لأن علماءهم غالبا ما تكون فتنتهم عن عمد , ويدركون الحق ويستكبرون , ولهذا كانت المناظرة للعلماء
وأشهر الأمثلة على الجدل الأحسن ما قام به رسول الله عليه الصلاة والسلام مع وفد نصاري نجران , وهى المجادلة التى انتهت بإصرار النصاري على ألوهية عيسي بن مريم عليهما السلام , ونزلت فيها آية المباهلة , فلما دعاهم رسول الله عليه الصلاة والسلام للمباهلة فروا ولم يقبلوا

وللبحث بقية عن شروط المناظات وقواعد المشاركة فيها

تعلم كيف تعود إلى الله ” 2 ”

التعليقات مغلقة

رأينا فى الجزء الأول من هذه الخواطر كيف أن أزمة العودة إلى الله تنقسم إلى أزمة عقل وأزمة قلب وأزمة ثالثة تجمع العنصرين معا
وعالجنا الأزمتين الأول .. وتبقت الثالثة لنعالجها ونقف عند قضيتها

أزمة الخط المستقيم

من أكبر الأزمات العقلية فى طريق العودة إلى الله هو محاولة العقل للعودة بغير إرشاد القلب ,
فما يغفل عنه الكثيرون أن الطريق إلى الله لا يسرع بالعاقل ولا يبطئ بالغبي الغافل بل يبطئ بالعاقل المتغافل
وبالعكس
فالعقل غالبا ما يكون طريقا للهلاك وهذا أمر طبيعى لأن العقل إذا سلك طريق التساؤل والعودة إلى الله طرح أمامه مفردات المادة والإدراك فى أمر يعوزه العجز للاعتراف بوجود خالق قادر منعم ومتفضل
ولذا فالمقولة الشهيرة أن الله تمت معرفته بالعقل تحتاج معها إضافة لتصبح قابلة للمنطق
فيكون الطريق بالعقل والقلب , فالقلب عماده المشاعر والأحاسيس وهو الذى يضيف لمحة التأثر المطلوبة لجمود العقل
فالعقل بلا قلب لا يعرف الخوف ولا يعرف الهيبة ولا يعرف العجز لأن مفردات العقل بطبيعتها تفجر الغرور الإنسانى فتدفعه للتساؤل بلا حدود وفى غياب التأثر القلبي يستمر التساؤل إلى ما لا نهاية رافضا أن يستكين لمفردات المنطق الإلهى طمعا فى منطق عقلي يقنعه
ولذلك ضل الملحدون وغيرهم الطريق عندما قالوا بعدم وجود إله وكيف يمكن أن يوجد إله لا يدركه بصر وفى هذا جاء القرآن الكريم مترجما لتلك الحقيقة , حقيقة أن العقل وحده لا يصلح حيث يقول عز وجل
[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}
فالآية الكريمة جعلت الإدراك العقلي للقلب لا للعقل لأن العقل هو الطريق أو الوسيلة بينما المنفذ الفعلى هو القلب الذى يصدق أو يكذب النتائج
وقد تكرر مفهوم نسبة الإدراك للقلب لا العقل فى آيات القرآن الكريم مثال ذلك قوله تعالى
[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}
وضلال الملحدين والمنكرين لوجود الخالق يدحضه المنطق العقلي ذاته حيث أن مفردات العقل ذاتها تقود إلى أن وجود الإله فى محل الإدراك ينفي ألوهيته بطبيعة الحال ,
إذ أن هذا الكون الذى لم نعرف منه إلا جزء بسيطا من سمائه الدنيا يبلغ مقداره 13 مليار سنة ضوئية فى الاتساع ومثلها فى العمر ويبدو أمام الإدراك لغزا غير قابل للحل ,
كيف يمكن لخالقه أن يكون تحت بصر الإدراك ,, لو كانوا يفقهون ؟!
هم بهذه الطريقة مع أمثالهم من عبدة المذاهب البشرية هبطوا بقدرات العقل إلى دركها الأسفل فخرج منهم كما رأينا ملحدون ومشركون وصنف آخر أعجب وهم العلمانيون عندما وقفوا يدافعون عن قدرات العقل الإنسانى باعتباره يستطيع بالتطور أن يطور تشريعاته بما يتناسب والتقدم العلمى الهائل الذى يرونه أمامهم ويعبرون عن ذلك بأن الدنيا أصبحت قرية صغيرة مملوكة للقدرات الإنسانية
ولعمرى إنهم فى ضلالة ما بعدها ضلالة ومن أشد إعجاز القرآن آياته التى أخبرنا عن أمثالهم فى قوله تعالى
[حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {يونس:24}
وقد كنت أتعجب من حماقة إبليس لعنه الله وهو يتحدى رب العالمين وهو يثق تمام الثقة بمصيره الذى أخبر عنه القرآن فإذا ببعض البشر أشد منه حماقة وهم يقرئون بأعينهم ولا يفقهون بقلوبهم هذا الوعيد المباشر الصريح بأن مصدر الهلاك الأعظم للبشرية عندما تأخذ الأرض زخرفها ويظن الغافلون أنهم قادرون عليها
ومما هو أغرب أن تلك العقول التى تتبجح بالعلم والإدراك والدفاع عن العقل تعجز عن ربط حقائق بسيطة تطرحها العقول والتجارب أمامهم وهم يرون بأعينهم هذا الكون الفريد الذى تشغل فيه شمسنا بمجموعتها حيزا أشبه بثقب إبرة فى هذا الكون الفسيح الذى لا زلت أدعو القارئ للتبصر فى جزء بسيط من سمائه الدنيا يبلغ اتساعه 13 مليار سنة ضوئية
أى حاصل ضرب 13000000000 × 12 × 365 × 24 × 60 × 60 كيلومتر
وتبلغ درجة حرارة الشمس فى قلبها حوالى 15 مليون درجة مئوية وعلى سطحها خمسة آلاف درجة لو نقصت هذه الدرجة بمقدار درجتين فقط , أى شيئ لا يذكر فهذا معناه بدء عصر جليدى على الأرض !
فأين هو مثال تلك القدرة على الضبط والإحكام ؟!
هذه الشمس بكل هذا المقدار الرهيب من الحرارة لا تستطيع أن تضيئ حول محيطها إلا ما مقداره 500 كيلومتر من صفحة السماء والباقي فى ظلمة حالكة ,
والأكثر إثارة للذهول أن هذا المقدار من الطاقة والحرارة يعتبر أشبه بقطعة الثلج أمام النجوم العملاقة التى تعتبر شمسنا أمامها من النجوم الباهتة حيث يبلغ مقدار طاقتها مليون مليون شمس فى الكويزرات العملاقة
فتخيلوا معى مقدار الطاقة المنبعثة من كامل نجوم السماء الدنيا وما علاها من سماوات ,
وتخيلوا السماوات السبع فى مجموعها بكل من فيها وما فيها عندما نستمع إلى أقوال المفسرين عن الكرسي الذى يستقر فوقه عرش الرحمن حيث وصف دنيانا بأنها إلى جوار الكرسي ـ لا العرش ـ كحلقة المغفر إذا ألقيت فى الصحراء وحلقة المغفر هى حلقة الحديد التى تربط بها الدواب
هذه الحقائق لو أننا وضعنا كوكب الأرض إلى جوارها ,,
ما الذى يمكن أن يساويه ؟!
فإذا وضعنا الإنسان إلى جوار كل هذا الهول ..
ما الذى يساويه ؟!
وهل يمكن بعد كل هذا أن نقبل تبجح القائلين برفض التشريع السماوى الداعين للمنهج العلمانى القائم على عدم صلاحية شريعة الله عز وجل لهذا العصر المتقدم ؟!
ولأن رب العزة لا يأخذنا بحماقاتنا فقد ترك لنا من الأدلة المبسوطة على حقارة شأن الدنيا وأهلها ـ إلا من أدرك واعتبر ـ عندما نلمح فى أطراف الأرض ألغازا تتحدى قدرة العلماء من سائر أقطار العالم وهم يقفون أمامها عاجزين عن النوم وعن الحل , والقائمة لا تؤذن بحصر حول النظام المفرط الدقة للأجرام السماوية وآثار ذلك على الأرض وما يحتشد من ألغاز علمية لا زالت رهن البحث من مئات الأعوام ككهوف تاسيلي وبوابات الشمس وأعماق المحيطات والآثار العلمية الحديثة التى يبلغ عمرها ما يزيد عن خمسة وثلاثين ألف عام هذا بالإضافة للقدرات التى تخرجها الطبيعة
فإعصار واحد مثل إعصار تورنادو الشهير الذى يتكرر كل عام يأتى بوقت محدد ومع ذلك تعجز أعتى التكنولوجيا عن التصدى له لتقليل الخسائر فقط فضلا على منعها ؟!
ومن آياته أيضا أن الدواب التى تقبع بلا عقل يمكنها إدراك الكوارث الكونية والطبيعية قبلها بوقت يمتد لساعات فى حين يعجز الإنسان بأجهزته ومعداته عن توقعها بنسبة صحيحة إلا فيما ندر
وهذا يؤكد على القول المأثور أن من اعتمد على عقله ضل , ولكن أين المتأملون ؟!

ولو غابوا عن تلك الحقائق كيف غابوا عن مثل هذا الوعيد فى قوله تعالى
[وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا {المزمل ـ 11 , 12 }
ومن غريب الأمور أن بعض علماء الغرب الكبار وهم فى الأصل أبعد ما يكون عن الدين إلا أنهم تمكنوا بالعقل المقترن بالمنطق القلبي الحر الخالى من الغرض والهوى من ولوج باب الإيمان من أوسع أبوابه عقب التأمل فى بديع صنع الله بهذا الكون ونقلت وسائل الإعلام مقولة مأثورة لأحد مشاهير العلماء فى علم الفلك قال
{ إنى على يقين من أن هذا المجال ـ مجال الفلك ـ لا يمكن لأحد أن يخوضه بعقله فى غير إيمان بوجود إله أو حتما سيفقد هذا العقل ْ}
والعبارة ترجمة بالغة الدقة لأن صفحة السماء والتأمل فيها تخرج بالعين البشرية من قصورها وغرورها المعهود لتدرك شأن الإنسان الحقيقي فإن أبي العقل اعترافا باله مالك قادر لهذا الملكوت فلابد أن التفسيرات ستعجز عن بناء إجابة منطقية للسؤال الصعب , أى انتظام وأية قدرة , ومن الطبيعى عندها أن يفقد الإنسان عقله
وفى آخر لقاء صحفي مع عملاق الفيزياء ألبرت أينشتين ذكر أمام الصحافة الحاشدة مقولة تشير إلى إيمانه المطلق بأن وجود الله حقيقة علمية لا مفر منها لتكتمل المعادلات فى هذا الكون بتلك الصورة التى عليها لأن افتراض وجود الله هو الحل الوحيد لعلاج قصورها .
فعلق أحد الصحفيين قائلا { عجبت لمن حبس الطاقة فى معادلة كيف يؤمن بوجود الله }
فرد أينشتين بعنف { إخرس .. أتظننى ملحدا إننى مؤمن بوجود الله وهذا ما لا ينكره عاقل }
والوصول إلى الله بطريق الإدراك العقلي السليم الممتزج بصحوة القلب يكون أفضل طرق الوصول دون شك مصداقا لقوله تعالى
[إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] {فاطر:28}
فبلا شك أن إدراك العقل لمدى قدرة الله تعالى اللامحدودة وطلاقتها فى خلقه يقود المرء ببساطة إلى أن الوقوف بالعقل أمام خالق العقل ومحاولة الإستقلال بسلطة التشريع أو التعديل فيما لا يجوز فيه ذلك , أمر هو من الحماقة أحد وجوهها دونما شك
هذا عن العقلاء الذين أحبوا الإنفراد بالعقل وحده طريقا دونما تهذيب لقدراته بالقلب المستعد القابل للهداية فأخذهم الكبر والغرور البشري المعهود ,
ولكن ماذا عن العقلاء الراغبين الذين قادهم ذات العقل الراغب للهداية إلى التيه
هؤلاء هم للهداية طارقو أبواب لكنهم عجزوا عن إدراك أن هذا الطرق لا يفيد حيث أن الأبواب مفتوحة على الدوام ومع ذلك يصرون إصرارا غريبا على طرقها وسماع الإذن بالدخول أولا قبل أن يلجوها !
هؤلاء الذين لم يدركوا مدى العظمة التى يمثلها كبرياء الخالق
وأعنى بهم أولئك المؤنبين ضمائرهم بأخطائهم السابقة بشكل يجاوز الحد , بل ويمتد بهم العصف النفسي إلى ما هو أخطر إلى درجة ترك أعمال الخير مخافة الرياء وإلى حمل الهم النفسي والقنوط من رحمة الله تعالى تحت تأثير الخوف المرضي من الخطأ أو الذنب
وهؤلاء لم يسلكوا حكمة الإسلام العريقة التى تقول بالوسطية دوما , لأن مبالغتهم فى الخوف من الذنوب أوقعتهم فيما هو أشد ألف مرة إلا وهو القنوط واليأس
وهؤلاء لا يدركون حقيقة بسيطة للغاية تبسط نفسها أمام كل مبصر وهى أن الإنسان مخلوق على طريق الخطأ بطبيعته وليس مطلوبا من أى إنسان ألا يذنب بل المطلوب منه فقط ألا يصر على ذنب .. وما أبعد الفارق بين هذه وتلك
فلو أن الإنسان مطلوب وواجب عليه ألا يخطئ لما دخل الجنة أحد قط حتى الأنبياء والرسل والملائكة .
وفى هذا ورد حديث المصطفي صلي الله عليه وسلم قائلا
{ لا يدخل الجنة أحد بعمله ولا أنا ولا عيسي بن مريم إلا أن يتغمدنا الله برحمته }
فلو أن خلق الإنسان كان فيه الإلزام بالعمل الصارم بلا خطأ لكان معناه أن البشر تدخل الجنة بعملها وتدخل النار بتقصيرها وهو ما يعد أمرا مفروغا من نفيه ..
ولهذا جاء قول رسول الله فيما معناه { لو أنكم لا تخطئون لأتى الله بقوم يخطئون فيستغفرون فيغفر الله لهم }
بل حتى الملائكة وهم خلق لا يعصون الله ما أمرهم لا يدخلون بهذا العمل وقد ورد فى التفاسير أن هناك من الملائكة من هو ساجد لا يقوم وراكع لا يرفع وتقوم الساعة عليهم وهم على هذه الحالة قائلين { ما عبدناك حق عبادتك }
فما أعجب المتنطعين الراغبين فى تعذيب أنفسهم بما لم يرتكبوه بعد وكأن الله تعالى لم يقل فى كتابه العزيز
[مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] {النساء:147}
فالله أكبر من هذا وأعظم وأجل من أن يقف بالحساب أو يبالى
وقد ورد فى الأثر عن أحد الصالحين أنه قال لأحد الناس
{ من سيحاسبنا يوم الحساب }
فقال الرجل { الله عز وجل }
فقال الرجل الصالح { إذا نجونا ورب الكعبة فإن الله كريم والكريم لا يدقق فى الحساب }
ألم يقل الله عز وجل فى الحديث القدسي عند خلق آدم أنه يرسل أهل الجنة إلى الجنة ولا يبالى وأهل النار إلى النار ولا يبالى
فسبحانه من رب هو أدرى بأن الإنسان ظلوم كفار .. ولهذا كان مغفرته سابقة لغضبه
فليس على المسلم إلا إخلاص النية وعدم الشرك بالله والإيمان التام الخالص لوجهه وبعدها ليس مطلوبا منه إلا السير بطريق الإخلاص فى النية وهى أخطر ما يطلبه الله عز وجل حيث أن الإخلاص جعله الله سرا مخفيا حتى عن الملائكة والشياطين وجعله الطريق الوحيد للنجاة ..
أما الأخطاء والذنوب فهى عوارض الحياة اللازمة لها مهما فعلنا وما علينا إلا تفادى العمد فيها وحسب
فالعلماء الفلكيون قرروا أن الكون لا يعرف الخط المستقيم قط بل كل ما فيه عبارة عن منحنيات حتى الأجسام التى تطرق الفضاء يجبرها الفضاء الكونى أن تسلم المسار المنحنى أو الدائري أو الأسطوانى ولهذا أيضا وصف القرآن الصعود فى السماء دائما بلفظ العروج لا الصعود لأن العروج معناه المسار الدائري حتى لو كان الإتجاه لأعلى
ولهذا قال العلماء عبارتهم السابقة أن الكون لا يعرف فى هندسته الخطوط المستقيمة ,
ولفظ الاستقامة محل نظر لأن العلماء أرادوا بها وصف الخط المباشر غير المنحنى أو المنكسر ووصف المباشر يختلف جذريا عن المستقيم لأن الإستقامة معناها الإنتظام فى المسار بغض النظر عن شكل المسار مباشرا أو منحنيا
فالأرض مثلا تدور فى فلك منتظم مستقيم لا يختل فى مساره شبه الدائري حول الشمس وكذلك سائر الأجرام
وهذا يقودنا للربط بين التعبير الفلكى والحقيقة التى نحن بصددها أن الاستقامة المطلوبة من البشر ليست معناها السير فى خط مباشر لا يختل يمينا أو شمالا لأن هذا ضد طبيعة الخلق الإنسانى القائم على الخطأ والسهو والكبر والنسيان
فضلا على أن الإستقامة المطلوبة من البشر لو أنها تعنى السير المباشر لكان معنى هذا دخول الناس للجنة بأعمالها كجزاء طبيعى لعدم انحناء المسار فى انتظامه وهو ما يعد غير متحقق بشكل قاطع
وبهذا الشكل فحتما هناك مقصود ومدلول مختلف لمعنى الإستقامة فى القرآن الكريم فى قوله تعالى
[فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] {الشُّورى:15}

فالإستقامة هنا معناها الإلتزام بأوامر الله بعد الإيمان والتوكل عليه فى الحساب لأن المسار بطبيعته للإنسان لا يمثله الخط المباشر بل الاستقامة فيه هى المسار المنحنى بلا خلاف والفارق يكمن فى الطاعة بحسب انتظام هذا المسار المنحنى ذاته
فليس مهما أن تزايد على نفسك بالطاعة والحذر بقدر ما هو أهم أن تنتبه لحقيقتين وهما
أن تسلك طريقك مخلصا النية فى عدم الخطأ ,
والثانية أن توقن تمام اليقين أن كل ما فعلته وما ستفعله هو لا شيئ أمام نعمة الله تعالى لأن الغرور بالنعمة أو العمل أو العلم هو طريق إلى جهنم بلا جواز سفر
فعلى الذى يرهق نفسه بالخشية من الخطأ أن يجعل تلك الخشية قاصرة على ما هو أولى ألا وهو الخشية منه جل وعلا ألا يقبلنا يوم الحساب .. والله عز وجل ذو رحمة وفضل لا ينفذ قط ولا يمل الله حتى تملوا
وإنه من المثير للدهشة أن الإنسان يمل والخير أمامه أضعاف الشر وسبل النجاة عديدة وسبيل الهلاك واحد فقط .
بينما الشيطان لا يمل قط ولا ييأس ويبذل الجهد أعواما لينال من الإنسان عثرة واحدة , وبعد كل هذا الجهد المضنى يعود الإنسان إلى رشده فيستغفر الله فيضيع عمل الشيطان كله بضربة واحدة ..
ومع ذلك لا يمل ولا يكل !
فهلا عدنا لأنفسنا فى لحظة صافية ,, لنتعلم كيف نعود لله عودة شافية

تعلم كيف تكون مثقفا ” 2 ”

التعليقات مغلقة

مذيعة لأحد البرامج التى تختص ببث القضايا المنفرة لكل فطرة سليمة يبلغ راتبها خمسة وخمسين ألف دولار فى الشهر الواحد بينما فى مصر يبلغ بدل شراء الكتب لخطباء المساجد عشرين جنيها أى ما يعادل أقل من أربعة دولارات
بينما فى مصر قديما كان راتب محمد حسنين هيكل فى الأهرام يبلغ خمسة آلاف جنيه سنويا وهو مبلغ مهول بمقاييس الخمسينيات ليس لأنه صحفي فى جريدة قومية بل لأنه هيكل وعلمه وقيمته لا خلاف عليهما
الآن لا يستطيع ممثل من الدرجة الثانية أن يسير فى الشارع لكثرة الإزدحام حوله بينما لو نزل هيكل الآن للشارع فلن يعرفه إلا شخص من كل عشرة أشخاص
وقديما كان التمثيل فى الأربعينيات مهنة من لا مهنة له
وكانت لا قيمة لهم بالمجتمع لدرجة أن المحاكم لا تقبل لهم شهادة نهائيا ولم يكن ينضم للتمثيل إلا من لا هوية لهم بالمجتمع حتى الوقت الذى انضم فيه يوسف وهبي وكان من عائلة كبيرة ويحمل الباكوية وصارت تلك الحادثة حديث الأوساط استنكارا ومن ساعتها بدأ الإنهيار
فتخيل هذه الصورة القديمة وضعها إلى جوار الصورة الحالية ولا تعليق
وقديما عندما تقدم عبد الحليم حافظ وهو فى أوج شهرته للزواج من فتاة من عائلة متوسطة كان الرفض القاطع من أهلها حتى يترك مهنته ـ برغم الشهرة الكاسحة ـ ولكن كانت ثوابت المجتمع وثقافته قائمة بخيرها لم يمسها الهوان
والشيخ الإمام محمد مصطفي المراغي بعد أن حاز عالمية الأزهر فى شبابه وصار أصغر من حصل عليها أراد والده أن يختار له زوجة صالحة وفكر فى إحدى بنات عائلة كبري فى الصعيد ترجع أصولها إلى النسب النبوى المكرم وتعج العائلة بأهل العلم والمكانة الإجتماعية الضخمة ولم يكن والد الشيخ المراغي طامحا فى هذا النسب إلا لأن ابنه عالم أزهرى له شأنه رغم صغر سنه فقبلته العائلة على الفور لأن المجتمع لم يكن يري شرفا يدانى شرف العلم بناء على الثقافة التى كانت صحيحة ومتينة ..
وأحد القضاة الكبار دخل المحكمة ليمارس عمله واستوى جالسا وبالصدفة البحتة كان والده فى القاعة مع الحضور لأن صديقا له أتى شاهدا بقضية سينظرها القاضي الإبن ولم يكن الوالد يعلم أن ولده هو قاضي الدائرة
ومن على منصة القضاء لمح القاضي والده بين الصفوف فهب واقفا على الفور وغادر القاعة ودخل لغرفة المداولة وأرسل لأبيه فأتاه فقبل يده ورجاه أن يغادر القاعة ليتمكن من الجلوس على المنصة !
وعندما حدثت نكسة عام 1967 م ..
وكانت كارثة لا تدانيها كارثة بالطبع .. وتوقعت إسرائيل والولايات المتحدة أن يستبد اليأس بالمصريين والعرب جميعا بعد الأهوال التى اكتشفوها من قوة عدوهم وعتاده ومن إهمال قادتهم .. لكنهم فوجئوا بالمظاهرات فى مصر تخرج غاضبة هاتفة بنداء شهير لا أستحب ذكره لأنه تعبير شعبي متجاوز تقول لعبد الناصر لا تتنحى الآن عد لمقعدك حتى تنكشف الغمة ولم يبق فى مصر كلها طفل واحد له هم أو حديث إلا عن الحرب القادمة ..
وترك كل ذى نعمة نعمته وهب ليرسم خطا فى لوحة النصر القادمة فانضم متطوعا للجيش عدد كبير من الشباب منهم المهندس والطبيب والمحامى تاركين عملهم الرئيسي ساعين للجيش طواعية
وتآزرت العرب جميعا على قلب رجل واحد من المحيط للخليج وأجبرت حكامها على أن يكونوا رجالا فكانت حرب التحرير من نفس الجيل الذى تلقي الهزيمة الساحقة فلم تهز من عزيمته شعرة
فلماذا فعلت الشعوب العربية ذلك .. ؟!
فعلته لأنها كانت ذات ثوابت ثقافية صحيحة وسليمة لا تصف المسميات بغير أسمائها حتى العصاة منهم لم تكن معاصيهم تظهر إلا مع أقرانهم .. لم يكن الواحد منهم ليجرؤ على الوقوف مهتزا أمام والده أو يجرؤ أحدهم مرة واحدة على تحليل المعصية والقول بإباحتها
فكيف كانوا كذلك ولماذا أصبحنا نحن خلافهم .. ؟!
لأنهم اكتسبوا العقل الناضج .. والهمة العالية .. والثقافة السليمة ونحن افتقدنا لثلاثتهم ..
فكيف يمكن أن يدرك الراغب فى الثقافة نفسه .. هذا ما سنحاول مناقشته فى السطور القادمة ..

أولا .. العقل الناضج والطريق إلى الثقافة ..يقول الحق سبحانه [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا] {المزمل:19}
فمن ذا الذى لا يريد إدراك نفسه فى عصر الفتن ويتخذ لربه سبيلا .. والعقل الناضج هو الذى يدرك أن العبادة قوامها العبادات لكن أساسها العلم الذى يجلب التقوى ..
هذا أول طريق العقل إلى الثقافة فلو لم يدرك الإنسان أن طريقه لله لن يتأتى إلا بالمعرفة الحقة والعلم الضرورى سيضل طريقه دونما شك ولو قضي دهره صائما قائما ..
لأن الثقافة إن كانت بالعصور القديمة ميزة وتكرمة ففي عصرنا الحالى ضرورة لا غنى عنها ..
فقديما كان العلماء قائمون على حدود الله يحرسونها يقظين لكل صاحب فتنة ولكننا الآن فى عهد صار أهون الناس على الناس فيه هم العلماء وضربت بينهم وبين الجماهير الحجب وشغلتهم السلطات بأرزاقهم بعد أن تعمدوا تركهم لا يجدون قوت يومهم وانفرد بالإعلام أصحاب الأوهام .. فلو سار المرء فى حياته دون حصن ثقافي وقع فى أقرب شرك منصوب له
وبداية الطريق لا تكون إلا بجلسة منفردة مع النفس أولا يسأل فيها كل واحد عقله بسؤال منطقي أين يبتغي الوصول بالضبط ؟!
هل الحياة بشكلها الحالى تمثل أمرا مقبولا والإجابة بلا القاطعة ومن ثم لابد من التفكير الجدى أن الطموح للمعرفة ليس لأن يقال عن الإنسان أنه مثقف وليس لكى نكتب وننشر على الناس ونستمع لآهات الإعجاب وليس لأى غرض كان .. بل يجب أن تكون المعرفة للمعرفة والثقافة للثقافة ..
هذا ما يجب على الإنسان أن يتخذه يقينا دامغا قبل أن يسأل وقبل أن يفكر من أين أو كيف أبدأ ..
وعندما يقرر البدء لابد أن يكون العقل ناضجا واعيا للخوض فى بحار المعرفة .. والنضج والوعى هو الذى يرسخ للمثقف أن يكون باحثا فيما بعد ويتوفر فى المرء عن طريق النظر إلى الكاتب قبل الكتاب والى الدليل قبل الإقتناع .. هذا بالطبع لا يتم تطبيقه على الثوابت التى اتفق عليها علماء كل علم
فمن كوارث الإنترنت بالذات كمصدر هام للثقافة
أن القارئ يطالع غرائب المعلومات والحقائق والموضوعات فيأخذها على عواهنها وهى كلام مرسل قد يكون ماسا بثابت فى الشريعة أو بحقيقة تاريخية هامة أو نحو ذلك
فالحل يكون بالنظر للكاتب هل أورد فى موضوعه التوثيق الكافي للمعلومة أم ذكرها منفردة فإن ذكرها منفردة فعلى القارئ المثقف أن يسأله عن مصدرها وإن لم يتوفر يبحث عنها القارئ نفسه ولا يأخذها أو يتعامل بها ما لم يستوثق من أهل علمها
أما إن الكاتب ثقة بشخصه ومتحدثا فى مجاله فلا بأس باكتساب المعلومة منه مباشرة وهؤلاء الكتاب هم المعروفة سمعتهم وهى خاصية سيكتسبها القارئ كلما قطع أشواطا فى القراءة وذلك عندما يدرك أعلام كل مجال
وهذا يعفي القارئ من الحماقة المنتشرة بين القراء والمثقفين وهى احتجاج بعضهم بمعارضات مجهولى الهوية أمام أقوال وجزم كبار المؤلفين والمحللين ..
مثلا .. كتب هيكل كتابه الشهير عن حرب الخليج المعروف بنفس الإسم والذى أثار ضجة معتادة تصاحب كتب الأستاذ عادة ولكن لأن الكتاب أتى هذه المرة معالجا حدثا معاصرا على خلاف المعتاد من هيكل فقد جاءت حقائق هيكل المعتادة وتحليلاته بالغة الصدمة والتأثير لأنها أتت بعد عام واحد من أحداث حرب الكويت عام 1991 م
وخرجت العديد من الأصوات المعارضة للكتاب واهتزت بعض المؤسسات الرسمية وحاولت تكذيب بعض معلومات الكتاب ووثائقه ..
وهذا الأمر ـ لمن يعرف هيكل ـ يُعد إجراء بالغ الخفة والطيش لأنك قد تختلف مع هيكل فى تحليله للمعلومات إلا أن ما يمكنك الطعن فيه هو معلوماته ومصادره التى لا تتأتى لبعض أجهزة المعلومات والمخابرات فى العالم ويكون أى كتاب لهيكل ملحقا به فصل أو أكثر كملحق وثائقي لا يضم إلا وثائق رسمية من دولها وجميع شهادات الساسة والمفكرين التى ترد فى كتب هيكل تكون منسوبة لأصحابها وهم على قيد الحياة .. ومن هذا المنطلق اكتسب هيكل مصداقيته المعروفة عالميا كواحد من أبرع عشرة محللين سياسيين فى العالم تؤخذ كلمتهم فى الشأن السياسي وهيكل هو العربي بل والشرقي الوحيد من بينهم
ولأن الساحة فى عالمنا لعربي تزدحم بمن هو ليس أهلا للقلم فقد خرج أحد الكتب طاعنا ومتهما هيكل بالتزوير وكان عنوان الكتاب يوحى بأن صاحبه قد أمسك بأدلة قاطعة تفضح زيف هيكل حيث كان الكتاب بعنوان { أوهام القوة والنصر عند هيكل }
وبتقليب صفحات الكتاب وجدته يحتوى على مقالات مجمعة لعدد من الكتاب الخصوم لهيكل مثل د. عبد العظيم رمضان معروفة كتاباته أنها ترد مرسلة وعبارة عن سرد أعمى خال من أى وثيقة أو دليل إن كتب شيئا عن الشأن الجارى ومع تلك المقالات بعض قصاصات الصحف الرسمية التى نشرت تكذيبات رسمية صادرة عن بعض الحكومات بشأن بعض المعلومات الواردة بكتاب هيكل
هناك من يقرأ مثل هذه الكتب الغير واضحة الملامح ويبنى عليها مواقفه .. لكن الأحرص يكتشف على الفور بمجرد النظر للكتاب أن عبد العظيم رمضان يتحدث وفقط بينما نحن بصدد وقائع محددة أوردها هيكل موثقة فأين دليلك المضاد ؟!
والتكذيبات التى نشرتها الصحف الرسمية منسوبة إلى حكومات رسمية كانت تكذيبات مرسلة ومعتادة فى مثل هذه المواقف تكون لإثبات موقف وحسب إلا أنها لا تملك نهائيا دحض حجة قائمة بدليل
وأمثلة هذه التكذيبات الشهيرة تمتلئ بها الصحف العربية كان آخرها عندما أصدرت الأهرام تكذيبا رسميا عن رياسة الجمهورية بشأن الحوار الذى أدلى به الرئيس مبارك لإحدى القنوات ونشرته الأهرام كما هو وكان الحديث محتويا على بعض التصريحات التى لم يشأ النظام أن تؤخذ عليه فأصدرت رياسة الجمهورية بيان التكذيب
وكأن الحوار المعلن السابق إذاعته على القناة الفضائية التى جرى الحوار على شاشتها قد اختفي أو أنه أصبح فى حكم الوهم ..
وغاية القصد أن العقل الناضج يجب عليه أن يستوعب المعلومات ويستوعب الاعتراضات ويزنها بميزان الذهب


ثانيا .. الهمة العالية
يظن الكثيرون أن الثقافة ليست علما بل تقل عنه ولهؤلاء أقول أن الثقافة علم وينطبق عليها ما ينطبق على طريق العلماء من المكارم والجزاء دون أدنى فارق لأن الله سبحانه وتعالى لن يحاسب العلماء ويقدرهم حسب عدد الشهادات التى تزين صالونات المكاتب ولا بعدد الجوائز التقديرية التى نالوها بل سيكون الحساب على المعلومات التى أضاءوا بها طريقا أمام طالب الطريق أيا كان نوع تلك المعلومة وأى ما كان مجالها طالما كانت فى غير مجال هدم
وقد اعتاد الكثيرون أن يلقوا بأسئلة متعددة ومتكررة حول كيفية البداية .. كيف يقرأ ومن أين يبدأ وكيف أتأكد مما أقرأ .. ؟!
وفى الواقع أن الأسئلة بشكلها السابق لا تنم إلا عن غياب الجلسة النفسية للعقل الناضج والتى تحدثنا عنها آنفا لأنه لا معنى لهذا السؤال إلا فى حالة واحدة .. أن يكون السائل مفتقدا لأى نوع من أنواع الكتب أو المطالعة وهذا مستحيل بالطبع لأن الكتب الآن أصبحت سلعة متروكة ومتوافرة بسائر الأقطار سواء للشراء أو المطالعة العامة هذا بالإضافة لنوافذ المعرفة بشبكة الإنترنت والبرامج الثقافية والمنتديات المختلفة وغيرها
فلا ينبغي أن يحتار البادئ على طريق الثقافة فى أى مكان يضع أول خطوة بل تكون أول خطوة حيث أول كتاب يصادفه فقديما عندما قالوا للعقاد ما رأيك بالحكمة القائلة { اقرأ ما يفيدك } فقال أنها حكمة معكوسة إذ كيف يمكن أن يعرف المرء ما يفيده مما يضره قبل أن يطالعه هم يقولون ذلك وأنا أقول { استفد مما تقرأ }
وهذا هو مربط الفرس فمن الأخطاء الشائعة أن يتلمس راغبو الثقافة استشارات من أهلها عن الكتب التى يطالعونها وهذا أمر لن يأتى بأدنى فائدة لأن كل إنسان له مجاله الذى يميل إليه فلو جاءت الاستشارة والنصيحة بكتاب معين لا يميل إليه القارئ ولا يستوعب مجاله ستكون بداية منفرة عن القراءة بأكملها ..
ولذا يجب أن يحدد المثقف فى بداية طريقة أى المجالات التى يريد أن يطرقها وأيها أسهل استيعابا لأن مرحلته الأولى ستكون مرحلة تدريب وتأهيل على كيفية إمساك الكتاب والصبر على قراءته على عدة مرات ثم محاولة قراءة كتاب فى جلسة واحدة وهكذا حتى تتشرب هواية القراءة إلى الأعماق وتولد فى نفس القارئ الهمة العالية للبحث والمطالعة
ومن المفضل أن تكون البداية مع الكتب المبسطة والروايات الهادفة التى تحمل بين طياتها معلومات ثقافية دسمة وكتب المعلومات العامة للشباب وغيرها من تلك الكتابات التى تمثل إغراء على المطالعة
وقد يسأل سائل كيف يكون التصرف إن طالع المثقف البادئ كتابا يحمل قضية معينة وربما كانت قضية مثيرة للفتن أو التشكيك بالثوابت ..
وللإجابة نقول أن لهذا السبب وحده كان شرط الهمة العالية ضروريا فى توافره ..
فبداية يجب أن يبتعد المثقف المبتدئ عن نوعيات كتب المناظرات أو كتب المذهبيات وما شاكلها فإن حدث وصادف قضية من هذا النوع فى كتاب أو برنامج تليفزيونى يكون الحل أن يأخذ القضية برمتها لتكون محل بحث ودراسة وفهم فلا يترك سبيلا لمعرفة خباياها إلا ويسلكه عن طريق قراءة وجهات النظر المختلفة فى تلك القضية وعن طريق طلب معاونة أهل الإختصاص فى هذا المجال حتى يصل لوجهة النظر التى يرتاح لها عقله مع الوضع فى الإعتبار أن وجهة النظر المختارة من الباحث لا يتم تركها لهواه أو حسب ما يراه بل يجب أن يكون حكمه واختياره مبنيا على مرجعية واحدة فقط وهى مرجعية الفكر الإسلامى فإن كانت وجهة النظر تعارض أمرا تشريعيا مجمعا عليه أو اتفق المفكرون فيه فلا مجال للبحث عن وجهة نظر أخرى وإن كانت القضية لا علاقة لها بالجانب الفكرى الإسلامى يكون الإختيار هنا حرا حسب قناعات الباحث
ومسألة البحث حلف القضايا ليست مسألة متروكة للصدف بمعنى ألا يتحرك القارئ للبحث خلف قضية معينة إلا إذا صادفها بل يجب على القارئ بعد أن يتعدى مرحلة التدريب أن يتخذ من كل كتاب يقرؤه قضية معينة يحاول أن يكون فيها رأيا بغض النظر عن رأى الكاتب نفسه ..
فسواء اتفق مع الكاتب أو خالفه يجب عليه البحث خلف مصادر القضية الأصلية وقراءة وجهات النظر المعارضة للكاتب وسماع حجتهم لأنه إن اقتنع القارئ بوجهة نظر كتاب واحد دون أن يطالع الرد عليها سيكون تابعا لا قارئا .. وسيكون حافظا لا مثقفا .. فالاتفاق أو الإختلاف يكون بعد مطالعة سائر الآراء
ومع الأسف الشديد تغيب هذه المزية أو الخاصية عن عدد كبير من المثقفين الذين اعتدوا على ترك الهوى يحكم ويتحكم فى وجهات نظرهم
وهذا يعارض أول مبادئ الثقافة وهى الإستقلال والحيادية فكل قارئ له كاتب مفضل .. نعم هذا أمر طبيعى لكن ليس من الضرورى أن يكون رأيك على الدوام هو رأى هذا الكاتب بعينه لأن كلامه ليس منزلا ولا مانع أيضا من الإقتناع بوجهات نظر أخرى فى قضايا معينة تكون متبناه من كتاب لا نميل إليهم أو نؤيدهم
فالحق هو الحق بذاته ولا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق ..
وهذه الآفة هى التى وقفت وراء ترك العديدين لكتابات عملاقة لمؤلفين ومفكرين كبارا لمجرد أنهم شيوعيون أو علمانيون أو أنصار لنظم معينة أو نحو ذلك ..
فهؤلاء مثلا ينبغى تحاشي وجهات نظرهم إذا تحدثوا عن الدين أو الشريعة لكن ما الذى يمنع من أخذ وجهات نظرهم لو كانت حقيقية فى مجالات سياسية أو قضايا اجتماعية أو غيرها
ونأتى لمعيار الهمة وضرورة توافره فى المثقف ..
فهذا المعيار ضرورى لأن البحث ليس أمرا سهلا والسعى خلف معلومة أو كتاب ليس سهلا أيضا فقلما يجد الباحث أو المثقف غايته بسهولة لا سيما وأن طلب الثقافة كطلب العلم طريقه مملوء بأشواك الدنيا ولهذا جُعلت له رياحين الآخرة
وكما حدثنا التاريخ عن الأهوال التى كان يقابلها طلبة العلم فى رحلات البحث وكيف أنهم تعرضوا فى سبيل معلومة واحدة للهلاك أكثر من مرة .. حدثتنا التجارب الشخصية لعمالقة مثقفينا أيضا عن مواقف نادرة صادفوها وهم بصدد البحث خلف الحقيقة فى قضايا مجتمعهم وعقيدتهم وأوطانهم
فأحد المثقفين بحث عن كتاب نفذا نسخه من أربعين عاما كاملة ولم تتجدد طبعته وأضناه البحث ولم يجده فلجأ لبعض المثقفين الذين قرءوا الكتاب ليعتصر أذهانهم فيحدثوه عن فحواه ..
وآخر أرهقه البحث لسنوات عن كتاب نادر ووجده مصادفة فى منزل والد زوجته فهب واختطفه طالبا فى لهفة من حميه أن يهبه هذا الكتاب .. ولما كان الكتاب قد أتى مصادفة للرجل ولم يكن ذو تعلق بالقراءة فقد منحه إياه ببساطة وهو يستغرب لهفته فقال له المثقف { والله ما موافقتك سابقا على تزويجى ابنتك بأقل عندى من موافقتك على منحى هذا الكتاب }
فالحقيقة التى يتم بناء وجهة النظر السليمة عليها أشبه بالإبرة فى تل من القش لأنها صدق مدفون فى جبل كذب وتزييف
وعليه يجب أن يكون المثقف أثناء قراءته أشبه بالمحقق ملئ بالشك تجاه ما يقرأ حتى يتثبت من مصادره وإن تثبت من صدق المصادر أو كانت المعلومة مأخوذة من عالم ثقة يقوم بالبحث عن وجهات النظر المخالفة ليزداد يقينه
ولو فعل كل كاتب ما تحدثنا عنه لما وجدنا كاتبا واحدا يستطيع أن يناظره أحد فى وجهة نظر تبناها
لأن الكاتب الحقيقي الذى بحث ودقق فى كل جوانب القضية قبل أن يكتب عنها تحصن بمعلوماته ضد سائر وجهات النظر المضادة ولهذا تصبح كتاباته أشبه بالطلسم الغير قابل للهدم أو الفتح لسابق استعداده .. بشرط أن يدع الهوى فى الرأى جانبا
وإذا بحثنا فى المناظرات والمعارك الأدبية والثقافية التى خاضها عمالقة مثقفينا سنرى العديد من الأمثلة المشرفة على ذلك وهم الكتاب الذين صنعوا سمعتهم من قوة حجتهم .. ولم تكن سمعتهم من فعل الأساطير بل بالجهد والإخلاص
فليس الكاتب من وضع قلما على ورقة .. بل الكاتب الحقيقي هو الذى يمسك بالقلم وتصل يده شريانا بعقله فلا يضع حرفا قبل أن يتثبت منه
بعد هذا إن أخطأ فلا بأس لأنه لا يوجد كاتب أو إنسان كامل وكثيرا ما يصادف الكاتب أو المثقف كاتبا آخر أكثر ثقافة ودراية ينبهه لما غاب عنه أثناء بحثه النهم .. عندئذ يجب أن يتراجع الكاتب الأول أمام الحجة لأن العقل الناضج هو الذى تربي على اتباع الحق بعض النظر عن الطريق الذى أتى منه
ثالثا .. الثقافة السليمة
تأتى الخصلة الثالثة وهى الثقافة السليمة ونعنى بها حسن التبصر بكل كتاب وبكل كاتب .. فإن طالعت كتابا ترى فيه وجهة نظر معادية للإسلام مثلا فلا تتسرع باتهام الكاتب بالكفر والزندقة كما نرى اليوم ..
بل على القارئ أن يعرف تاريخ هذا الكاتب فإن كان من مذهبية معارضة للإسلام أصلا فهنا من المؤكد أن كتابه يحمل وجهة نظر مكذوبة أو ملوثة .. أما إن كان ماضي الكاتب لا يحمل شيئا من ذلك فهنا يجب تقديم العذر لتباين الأفهام طالما أن الكاتب لم يمس معلوما من الدين بالضرورة أن يخالف أمرا أجمعت الأمة عليه
وتكون الخطوة التالية السؤال خلف القضية فربما كان الكاتب على حق لا سيما إن كان مفكرا معروفا وإن كان على خطأ فالخطأ مردود من أهل العلم والتراجع له فرصته أمام النقد البناء الخالى من التجريح
مثلا عندما ألف خالد محمد خالد كتابه { من هنا نبدأ } وطرح فيه بعض الأفكار التى لا تناسب صحيح الفكر الإسلامى جاء الرد من الإمام محمد الغزالى ردا منطقيا واعيا لأنه استشعر فى الكاتب بحثا عن الحقيقة لا غرضا مسبقا فى هدمها وكانت النتيجة أن تراجع خالد محمد خالد عن تلك الأفكار
وكمثال على الجانب الآخر فعندما ألف فرج فوده كتابه الشهير { الحقيقة الغائبة } وامتلأ الكتاب تجريحا فى التاريخ الإسلامى كان الرد عنيفا وصارما من فقهاء وعلماء المسلمين لأن الكاتب له ماض وتاريخ معروف فى العلمانية
واتخاذ المواقف من العلماء يختلف عن اتخاذ المواقف من عامة الكتاب والصحفيين ..
فالعالم الذى يخرج بفتوى أو بوجهة نظر مخالفة لقواعد الشرع أو مخالفة لثوابت المجتمع المتعارف عليها لا ينبغى أن يكون رد فعل المثقفين والقراء هو التهجم واللعن والسخرية .. لأنهم لا يملكون من الأصل أساسا ثقافيا يضاهى العالم فيما تحدث عنه إنما يكون الرد والمطالبة به حكرا على العلماء من قامة العالم المخالف
أما الكتاب العاديين وصغار المفكرين فهؤلاء وجهات نظرهم ليس لها التقدير الذى يجب أن نتعامل به مع العلماء وكبار المفكرين
لأن هذه النوعية من الكتاب التى درجت على مهاجمة العقيدة ومهاجمة قواعد الفطرة الإسلامية وضرب الإنتماء الوطنى لا تكون فى الغالب تدين بوجهة نظر سليمة مبنية على حقائق بل تكون فى أغلبها وجهات نظر شخصية يلقونها حبرا على الصفحات دونما أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث الأمين خلفها
وهناك مع الأسف الشديد من يندفع الإقتناع خلف وجهات نظر مغرضة فى الأصل تكون مليئة بالمعلومات المغلوطة والتى تخدع القارئ ما لم يبحث ..
على سبيل المثال ..
تناولت العديد من الأقلام قديما وحديثا شخصية جمال الدين الأفغانى واتهموه بالعديد من الإتهامات لا يمكن الحكم عليها فى مجملها إن كانت صحيحة أم لا ..
إلا أنه مما يدفع المرء للشك فيها أن بعض هذه الإتهامات تمت صياغتها بمكرٍ مقصود للنيل من الرجل ومن أمثلتها أنه كان لا يري مانعا من السفور للمرأة ما لم يجلب فتنة
وبالطبع إن وقعت عين قارئ اليوم على تلك المعلومة المصحوبة بالدليل القاطع سيقتنع تماما أن الأفغانى نادى بسفور المرأة أى خلع الحجاب ما لم يسبب فتنة بالرغم من تضارب المعنى إذ أن كل سفور بخلع الحجاب يسبب فتنة قطعا
إلا أن أى قارئ متبصر يجب أن يلفت نظره نقطة بديهية ..
وهى أن الأفغانى كانت له شعبية رهيبة لتاريخه النضالى ضد المستعمر وكان من أئمة الفقهاء فكيف يمكن أن تسكت الجماهير والعلماء فى زمانه على نداء يهدم ثابتا من ثوابت الشريعة بل كيف يمكن أن يغامر الأفغانى نفسه ــ حتى لوكان مخادعا ــ بمثل تلك الدعوة التى تمنح خصومه المتربصين لفرصة .. حق رميه بالحجارة فى ميدان عام دون أن تتحرك الجماهير لمناصرته ؟!!
وبالفعل كان الشك فى محله
واتضح أن الأفغانى وهو معاصر للخديو إسماعيل فى مصر أى فى نهايات القرن التاسع عشر كان يبيح السفور وهو كشف الوجه لا خلع الحجاب فالسفور فى زمانه كان بهذا المعنى أما فى زماننا فلم يعد هناك أسلوب اليشمك التركى الذى كان يحجب المرأة تماما عند الخروج .. هذا إن خرجت من الأصل لأن المجتمع ساعتها كان يحرم على النساء مجرد زيارة الأهل والقراءة وإبداء الرأى فى الأزواج وغير ذلك من الأشياء التى تخالف صريح الشريعة
فكان نداء العلماء المعتدلين أن يسمحوا للمرأة بتلقي التعليم إن كانت مؤهلة من وراء حجاب ونادوا أيضا بحقها الشرعى فى الإرث والتى كانت المرأة تحرم منه والرجال هى التى ترث فقط
بالإضافة لنقطة أكثر أهمية أن ما قاله الأفغانى لم يزد مطلقا عن حكم الشرع فى هذا الأمر فهو لم ينادى بالسفور بل قال بأنه جائز والفارق ضخم بين ينادى ويبيح فكلمة ينادى بالسفور تم دسها عليه عمدا ليظهر فى صورة الذى يحرم حجب الوجه وهو لم يقل ذلك لأنه سمح بالسفور إن كان لا يسبب فتنة وهو حكم الإسلام بشأن وجه المرأة والذى يسمح بظهوره ما لم يكن مسببا لفتنة ..
وجارى البحث خلف بقية الإتهامات
وعلى هذه الشاكلة تجرى الكتابات فى عالمنا المعاصر لبسط وجهات نظر محددة لأغراض محددة
بالإضافة إلى بحار من المعلومات المغلوطة
لا سيما بالتاريخ تجدها فى عقول وقلوب بعض المثقفين المحترفين نتيجة لرواجها الرهيب وغياب الهمة فى البحث خلف المصادر
وبالإنترنت والمنتديات تكون الكارثة أكبر فخلافا لما يتم إرساله بالملايين على البريد الإليكترونى لسائر مستخدمى الشبكة بشكل عشوائي ويحتوى على سموم معرفية مليئة بالزيف لا سيما الأحاديث والأدعية وفضلها تُضاف كارثة أكبر تتمثل فى ميل كل عضو بأى منتدى لنشر الغريب من المعلومات واللافت للنظر فيقوم بنقل ما لم يبحث فيه وينشره ويتلقي الشكر والإشادة ويتبعه القراء والأعضاء دونما سؤال أو استفسار !!
ليس المطلوب الشك فى سائر الموضوعات أو المعلومات ولكن المطلوب الرئيسي أن يتحرى القارئ مصدر المعلومات
فإن كانت من موقع علمى أو من منتدى متخصص يذكر المصادر فلا بأس .. إضافة إلى التدقيق الشديد خلف المعلومات الغريبة أو الآتية بما هو مضاد لمعارف سابقة أو شاذا صعب التصديق فينبغى قبل التعليق بالشكر السؤال والبحث خلف المصدر
وما لم ينتبه المثقفون إلى أن العصمة فى القراءة مقصورة على القرآن وصريح السنة وإجماع العلماء فيما يخص العلوم الإسلامية وبأقوال المتخصصين وأحكامهم القطعية فى العلوم النظرية وفى العلوم المعملية يتم إضافة التجريب إلى شروط القبول المطلق
وبغير الثقافة الواجبة لن يكون للمجتمع العربي كلمة فى مصيره

تعلم كيف تكون مثقفا ” 1 ”

التعليقات مغلقة

تعلم كيف تكون مثقفا .. ليس معنى العنوان أن الكاتب يضع نفسه فى مقعد المعلم بل هى خواطر تلميذ تحمل تجارب العمداء الحقيقيين للثقافة ومن تلك التجارب جمع الكاتب أسلوب التعليم الثقافي وأهميته
ما هى الثقافة ؟..
الثقافة لغة هى الكثافة أو الشيئ الكثيف .. وفى اصطلاح المثقفين تأتى أبلغ تعريفاتها ما قال به المفكر الأسطورة
عباس محمود العقاد وهى أن الثقافة أن تعرف شيئ عن كل شيئ .. والتخصص أو العلم أن تعرف كل شيئ عن شيئ
والثقافة بهذا المعنى ليست ترفا وليست كمالية من كماليات الحياة بل هى ضرورة قاطعة يجب أن تتوافر فى كل إنسان يريد أن يكون له من طبيعة خلقه فضل ومسمى ..
أما بالنسبة لما تعارفت عليه الشعوب من إطلاق لقب المثقفين على شريحة معينة من المجتمع فهو أمر منطقي ولا يتعارض مع التعريف السابق ولا مع ضرورة توافر الثقافة لدى كل إنسان
لأن الثقافة ليست على حال واحد وليست على درجة واحدة فهناك حد أدنى من المعلومات التى يجب أن يكتسبها المرء بالقراءة والمطالعة من حين لآخر .. وهناك المستويات المتوسطة والعليا للثقافة والتى لا تكون واجبة إلا على شريحة المثقفين والعلماء .. فإن كان الشخص العادى من عوام الناس يعتبر من معجزاته أن يكون مثقفا عملاقا وذلك عندما تفوق على ما هو ضرورى من حد أدنى إلى حدود أعلى
فإن الحدود العليا من الثقافة للعلماء ولأصحاب القلم ولأرباب السياسة والمفكرين ضرورة إن غابت يغيب معها وصف العالم والكاتب والمفكر ..
لأن العالم فى أى مجال وأستاذ الجامعة فى أى منهج والمفكر فى أى مجال فكرى لا يمكن قبول مبدأ التخصص منه كحجة أمام تقصيره فى الشأن الثقافي كما يحدث فعلا هذه الأيام فتجد أستاذا جامعيا فى الفيزياء مثلا لا يعرف بعض المعارف الكافية عن التاريخ الإسلامى فيخلط بين السيدة زينب بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين السيدة زينب عقيلة أهل البيت النبوى بنت الإمام على رضي اللهم عنهم جميعا ” واقعة حقيقية بالفعل
والمشكلة أنك تجد بعض هؤلاء العلماء يحتج بأنه غير متخصص فى مجال التاريخ مثلا وكأن المبادئ الأولية التى لا غنى عنها ثقافيا أصبحت بحاجة إلى دراسة أو إعداد
وكان من نتيجة بلوغ بعض العلماء هذه الدرجة من الإضمحلال أن خرجت بعض أجيال الشباب اليوم فى حالة موت إكلينيكي وليس إغماء فقط عن سائر ما يربطهم به انتماء
ومن دلائل ذلك صدور قرار وزارة الخارجية المصرية بعدم قبول أى متقدم لوظيفة السلك الدبلوماسي والقنصلي فى إحدى الدفعات من أربعة أعوام وذلك برغم حاجة الوزارة الملحة لدفعات جديدة بسبب كوارث الاختبار الثقافي الذى أظهرت نتائجه ثقافة من لون جديد لدى الشباب حتى بصدد المعلومات التى يتم تكرارها عشرات المرات فى الحياة اليومية فعجز الشباب الجامعى المتقدم لوظيفة حساسة عن معرفتها ..
مثال تلك المعلومات سؤال عن نجيب محفوظ أجاب أحد المختبرين أنه لاعب كرة قدم وسؤال عن فى أى عام هجرى نحن فأجاب بأننا عام 4000 هجرى !!
وفى أحد الدول العربية وأثناء مرور أحد المفتشين على إحدى المدارس اكتشف أن أحد المعلمين الذين يدرسون للطلبة يقرأ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو الذى يقول فيما معناه { الرؤيا معلقة برجل طائر } فنطق كلمة بِرجل ومعناها بقدم عن طريق فتح الراء لتصبح رَجل فلم يتمالك المفتش نفسه من الحنق فقال للمدرس { تقول رجل طائر لابد أنه سوبرمان إذا !! }
وأحد المدرسين أيضا قال لأحد المثقفين فى حوار بمعرض الكتاب أنه لم يقرأ كتابا منذ سبعة عشر عاما !!
ويروى الشيخ أبو اسحق الحوينى أن أحد أقربائه خريج معهد للخدمة الإجتماعية جاء إليه سائلا ما المذهب الذى كان يتبعه النبي عليه الصلاة والسلام هل المذهب الشافعى أم المالكى ؟!!!!
فالثقافة وغيابها الرهيب بهذا النحو هى السبب والعصب الرئيسي فى سائر مشاكلنا كمسلمين عرب بالتحديد لأننا فقدنا أدنى روابط الصلة بيننا وبين تاريخنا من جهة وبيننا وبين معنى الحياة من جهة أخرى
ولو تحدثنا بلغة الأرقام سنكتشف هولا .. فدور النشر التى تطبع وتنشر أمهات الكتب ومختلف المطبوعات الثقافية تشير أرقام توزيعها إلى درجات بالغة الإضمحلال بالنسبة لعدد سكان الوطن العربي
وليت الأمر خاصا بأمهات الكتب التى يمكن أن نقبل حجة التخصص والثقل فيها
بل الأمر يتعلق حتى بالروايات والتى تعتبر فنا للتسلية ليس أكثر .. وتدريبا على القراءة ليس أعمق !
نجيب محفوظ مثلا الحائز على جائزة نوبل فى الآداب عام 1990م تقوم دار مصر للطباعة والنشر بطباعة كتاباته وتوزيعها على سائر الدول العربية ومن أوراق النشر أشار أحد الصحفيين ذات مرة أنه لم تتجاوز أى رواية لنجيب محفوظ عند التوزيع خمسة آلاف نسخة فى سائر الدول العربية إلا إذا تم احتساب التوزيع على عدة طبعات لأعوام مختلفة ..
خمسة آلاف نسخة فى شعب عربي من المحيط إلى الخليج تتجاوز أعداد المواطنين فى بعض أقطاره حاجز السبعين مليون نسمة
بينما وفى المقابل عندما فاز خوسيه ساراماجو الكاتب الأسبانى بنوبل أعلنت دار النشر الأسبانية أن رواية نوبل لساراماجو وزعت فى أسبانيا وحدها رقما يقترب من المليون نسخة
بل حتى لو تركنا عالم الكتب بسائر صنوفه وتساءلنا عن الصحف وهى المصدر الأكثر توافرا وسهولة لأى مواطن يريد أن يعرف شيئا من أحوال بلاده والعالم من حوله سنجد ما هو أغرب ..
فأعلى رقم توزيع قرأته لجريدة كان رقم توزيع جريدة الدستور المصرية فى عددها الأسبوعى لا اليومى ويبلغ نسبة التوزيع 180 ألف نسخة فى مصر التى يبلغ تعدادها سبعين مليونا وعدد القراء فيها أربعين مليونا مع الوضع فى الاعتبار أن الدستور جريدة بالغة الجرأة تختص بمتابعة الشأن السياسي المشتعل فى مصر منذ عدة سنوات والشعب عن بكرة أبيه من المفروض أنه مهتم بهذا الأمر ومع ذلك من يهتم ويطالع ربع مليون قارئ وحسب ؟!
ولهذا فمن المستحيل أن يتقدم الوعى لدى المجتمع أن يتجاوب تجاه حقوقه المهدرة فى سائر الدول العربية ما لم يوجه السياسيون والمثقفون الإصلاحيون جهودهم لتنمية الوعى الثقافي أولا ودفع الشباب بالتحديد للقراءة .. أما توجيه الجهود إلى الصراع السياسي مع النظم الحاكمة فسيظل حرثا فى البحر مهما فعلوا لأن الشعوب تحكمها ثقافة اللاثقافة والإصلاحيون كل قوتهم تكمن فى تبعية الجماهير لأفكارهم وتجاوبهم معها
مما سبق يتضح لنا أن الثقافة المعتدلة فى حدها الأدنى مطلبا أساسيا وواجبا لكل فرد فى المجتمع والثقافة المتفوقة الدائمة التجدد مطلبا أساسيا لكل من أمسك بقلم ..
وطبقا لهذا التقسيم سنحاول مناقشة كيفية اكتساب الثقافة وأهميتها للفريقين أولا .. ثقافة العلماء والمفكرين ..

لئ كان مقبولا أن يتمتع فرادى الناس بشيئ قليل من الثقافة والمطالعة كل فترة .. فإنه لا غنى للعلماء والصحفيين وأهل الإعلام ومن هم على مقعد التدريس والوعظ عن الثقافة المتنوعة والمتجددة وأكرر المتجددة باستمرار ليتمكنوا من أداء وظائفهم وأمانتهم التى آلت إليهم بأماكنهم ..
ولسنا بحاجة للقول إلى أن هذه المجالات تعج بمن هم ليسوا أهلا لمرباعها وتسببوا بتقصيرهم فى تدمير الوعى لدى الجماهير بدلا من أن يقوموا بدفعهم للتنمية ..
وعلى حد قول المفكر المصري الشهير
د. فؤاد زكريا عندما سؤل عن رأيه فى حاجة المجتمع إلى تجديد الخطاب الدينى أجاب أن المسألة ليست مسألة تقصير الدعاة أو الخطباء بل هى كارثة عامة حلت بكل من يأخذ مقعد العلم أو التوجيه فتوقف أى طرف من الأطراف عن البحث والمطالعة يدفع به لهاوية التكرار والخطأ الفاحش والجمود فإما أن تنصرف عنه الجماهير وإما أن تكتسب الجمود منه
وهذا الأمر الذى أشار إليه د. فؤاد زكريا هو الواقع فعلا فليت العلماء يتوقفون فقط عن مطالعة الجديد فى مجالات الثقافة وحسب بل إنهم يتوقفون عن البحث العلمى ومطالعة الجديد فى صلب تخصصهم !
فإن كان هذا حال العلماء والمثقفين الكبار فلا عجب أن يكون حال الجماهير أفدح بكثير ويعم الجهل والأمية ولئن كانت الأمية محتملة وسهلة الدفع بالتعليم فإن الجهل يستلزم جهدا أكبر بكثير حتى يستطيع المصلحون دفع ركامه عن العقول ووضع العلم الصحيح مكانه
مع أن الثقافة والتجديد المعلوماتى إذا أدى المفكر أو العالم حقها دفعت به إلى مصاف الكبار مهما بلغ صغر سنه وهو ما رأيناه مع عدد من المفكرين والعلماء خرجت سمعتهم الرائعة عن حدود جامعاتهم ومؤسساتهم بل وبلادهم ليكتسبوا العالمية نظرا لأن إنتاجهم يخرج دائما عن جهد مرير فى المطالعة والبحث فيكون كنزا لمن يطلبه
وظل بعضهم حتى بعد وفاته نبراسا عبر كتبه التى يعجز غيره عن محاكاتها وظل بعضهم حتى أخريات عمره لا يتوقف أبدا مهما كانت الأسباب عن القراءة والبحث ولا يشعر قط أنه بلغ درجة العلم والثقافة لأنها درجة لا يتم بلوغها أبدا ومن شعر بذلك أو قاله فليوقن بأنه جاهل حقيقي ..
لكن مع الأسف الشديد هذا هو الواقع فقد رأينا مثلا عددا من كبار مفكرينا ومثقفينا يطالعون ويحرصون على القراءة فى مجالات تعنيهم كما فعل المثقفون الشيوعيون عندما ركزوا على هذا الجانب فكانت ثقافتهم لها غرض وطالما أصبح للثقافة غرض فقد فسدت دون شك وهو ما حدث بالفعل عندما انهار الإتحاد السوفياتى السابق وفشلت التجربة توقف هؤلاء عن القراءة كلها لا عن الماركسية فحسب بالإضافة لما هو أهم وهو أن تركيزهم على مطالعة مجال واحد وثقافة واحدة دفع بهم إلى متاهات ما أغناهم عنها لو أنهم فقط أعطوا بعض وقتهم لتاريخ حضارتهم وكتابات عمالقة عالمنا القدامى والمحدثين فقد كان هذا كفيلا بتبصير معظمهم لمدى سطحية الفكر الماركسي مقارنة بالفكر والثقافة الإسلامية
فالخطأ كل الخطأ أن يتوقف المفكر عن المطالعة أو أن يكتفي بمطالعة مجال واحد لا يهتم بغيره فلا يطالع الأديب إلا كتب الأدب ولا يطالع العالم إلا ما يخص مجاله ولا يطالع السياسي إلا السياسة ويهملوا فى سبيل ذلك مجالات اللغة والتاريخ والحضارات والفلسفة والإجتماع وكلها مكملات أساسية للشخصية الثقافية ..
وقد خسرنا كثيرا جدا بسبب هذا الداء حتى فى مجال الفكر الإسلامى فبعض مفكرينا الإسلاميين عندما قدحوا أذهانهم وبذلوا الجهد لكى يردوا شبهات بعض المستشرقين لم يلتفتوا إلى حقيقة غابت عنهم لعدم مطالعتهم كتب التراث جيدا وهى أن تلك الشبهات ليست فى معظمها جديدة بل أغلبها شبهات قديمة قام المستشرقون بمنتهى الجدية باستخراجها من كتبنا نحن دون أن يأتوا أو يشيروا إلى ردود علماء التاريخ القديم عليها فى عصورهم السالفة
واعتمد المستشرقون على جهلنا بآدابنا وفنوننا وقد ربحوا جزئيا بهذا حتى أتاهم الكبار ففضحوا تلك الأمور وسخروا منهم لسوء تدبيرهم الذى دفعهم للبحث فى الشبهات القديمة المردود عليها بكتب التراث وإهمال الرد عليها طمعا فى تشكيك الأجيال الحالية بعقيدتها

لأن علماء السلف ومفكريهم من أمثال العمالقة السيوطى وبن تيمية وأبو حامد الغزالى ومن قبلهم الشافعى وبن حنبل وأبو حنيفة تخصصوا فى ردع شبهات الفلاسفة وأصحاب الكلام ولم يتركوا شبهة دون رد بل إن بعضهم تألق أكثر حتى افترض شبهات لم يأت بها الناس فقال بها وقام بالرد عليها
وليس هذا غريبا على من كانت المطالعة والعلم دما تجرى فيه دماءهم فالأصل فى دمائهم الثقافة والفكر
ومن أمثلة تلك الشبهات
التى أراد بعض صبيان العلمانية إثارتها على نفس نهج المستشرقين دون أن ينتبه بعض الذين تصدوا للرد أنها قضايا أكل عليها الدهر وشرب .. قضايا التشكيك فى بعض الأحاديث النبوية الصحيحة الإسناد مثل حديث رضاع الكبير الذى تم حل قضيته قديما بكلمة واحدة وهى أنه حالة خاصة .. وحديث فقأ موسي عليه السلام لعين ملك الموت وحادثة الغرانيق وغيرها من تلك القضايا التى يتصدى البعض للدفاع عنها وحلها بحلول ساذجة دون أن يكلف نفسه مطالعة كتابات الطبري والعسقلانى والغزالى وبن تيمية وغيرهم ممن ألقموا مثيريها حجرا
ورحم الله أئمتنا الكبار فوالله فى عهدهم ما جرؤ هؤلاء على إثارة قضية قديمة مستهلكة .. وكم آلمتنى كلمة أحد القساوسة المتتبعين للقضايا الإسلامية وهو يقول بخبث ..
نريد ردا على تلك الشبهات ورحم الله الشعراوى كان يرد عليها ببساطة وأرى أن الأمة لن تحرم من شعراوى آخر
نعم والله لن تحرم الأمة أبدا وتم بفضل الله الرد من علمائنا المتخصصين فإنه وعد الله ورسوله أن خير العلم باق فينا
وحتى فى المجالات السياسية والأدبية ..
لم يلحظ الأدباء المنغلقون على كتب الأدب وحدها أن الأدب ليس ترفا للأمم بل هو شريان تعبير عن أزمات الأمة وآمالها وهذا لن يكون ما لم يكن الأديب شاعرا أو ناثرا متواصلا مع قضايا أمته ليعبر عنها .. وليت الأدباء طالعوا فى الأدب نفسه حق مطالعته وإلا لاكتشفوا فى التراث كيف كان الشعر والنثر معبرا عن المجتمع
وفى السياسة تجد معظم من يتصدى للكتابة والتحليل والقياس جاهلا بالتاريخ مع أن الثقافة التاريخية لازمة وجوبا للمحلل والكاتب السياسي وإلا كيف يمكن أن يعالج ما يري من أحداث على الساحة الدولية دون إلقاء نظرة على خلفية العلاقات التاريخية بين الدول وتطورها .. وكمثال لو أن رجال السياسة يكلفون أنفسهم نظرة إلى ما أهملوه ما غرقنا فى إجراءات تضيع حقوق الأمة يوما بعد يوم وهى الاتفاقيات الجاهلة بمنطق وثقافة الحركة الصهيونية القائمة على تحقيق المصلحة بأسلوب النفس الطويل وهو ما يعنى ببساطة أنهم لا يركعون إلا لقوة ولا يفيد معهم تفاوض إلا بعد حرب
لكن أتى من عقد الإتفاقيات دونما إجبار ومواصلة المقاومة وهى السلاح الوحيد الذى يجبرها على الرضوخ فكانت النتيجة أن أخلت إسرائيل بسائر تعاقداتها بعد أن أخذت كل ما أرادت من إيقاف العمليات الفدائية وتصدير الخلافات بين الفصائل الفلسطينية بالإضافة إلى اعتراف رسمى ــ دون ثمن ــ بحق إسرائيل فى الوجود !
هذا بالإضافة إلى مجال الفكر الذى تتصدره أسماء لامعة لمفكرين أهملوا الثقافة بعد أن اكتسبوا المكانة الجماهيرية فتوقفوا عن جهد البحث والتجديد ولم يحترموا عقلية القراء فجاءت معظم كتاباتهم الجديدة تكرارا ونقلا واقتباسا
مع أن أمامهم مثل حى مثل محمد حسنين هيكل لا يضع قلما على ورقة ويكرر معلومة أو تحليل ولا يغامر بتأليف كتاب إلا بعد أن يحيط بسائر جوانب موضوعه فتخرج كتاباته موسوعات لا تحتاج معها مرجعا آخر أبدا
وهو نفس الأسلوب الذى حكم الأمام الشعراوى فى مجاله وكذلك عباس العقاد وتوفيق الحكيم و الكبيسي العالم العراقي الشهير فتلك الشخصيات لا تتوقف قط عن التجديد الثقافي ولا يتم فتح موضوع أيا كان نوعه أمامهم إلا وتجد عندهم نصيب منه يزيد فى بعض الأحيان عن نصيب بعض متخصصي تلك المجالات
ومن مآثرهم مواقفهم الحكيمة أمثلة تجعل العقل فى حيرة من هذا النبوغ فعباس العقاد كان تلميذه أنيس منصور متخصصا فى الفلسفة وأستاذا جامعيا فيها وزراه ذات مرة ففتح معه موضوعا حول مؤلفات أحد الفلاسفة الأوربيين فقال أنيس منصور أن لهذا الفيلسوف أربعة كتب فقط تُرجمت للعربية ومد يده بتلك الكتب للعقاد هدية له فضحك العقاد ولم يرد بل نادى خادمه وطالبه بأن يأتى له بالكتب الملقاة على جانب فراشه ..
فاكتشف أنيس منصور لذهوله أنها سبعة كتب لهذا الفيلسوف حصل عليها الأستاذ مترجمة منها أربعة كتب هى التى جلبها أنيس منصور معه وثلاثة لم يسمع عنهم شيئا ..
وكان مما رواه عن العقاد أيضا أن منتداه الأسبوعى الذى كان يعقده بمنزله فى حى مصر الجديدة بالقاهرة كان يبدأ دائما بسؤال الحضور للعقاد عن الموضوع الذى يتحدثون فيه
فتكون إجابة العقاد اختاروا أنتم الموضوع .. فيختاروا أى موضوع سياسيا كان أو أدبيا أو تاريخيا فيأخذ العقاد بلبهم فيه
وهذا أيضا كان حال الشعراوى رحمه الله وأيضا هيكل الذى علق أحد كبار النقاد فى الأدب عنه قائلا
أن هيكل أصبحت لا أجرؤ على الحديث معه فى الأدب مخافة أن أخطئ فى معلومة عن شاعر جاهلى أو معاصر بعد أن اكتشفت أن معلوماته فى هذا المجال بلغت درجة تثير الإطمئنان أنه لم يفكر فى اقتحام مجال الأدب وإلا لأجلسنا فى بيوتنا
والدكتور الكبيسي وهو عالم لغة عربية فى الأصل تعج برامجه بتحليلات سياسية يعجز عنها بعض المحترفين فى هذا التخصص
وما بلغ هؤلاء القمم أماكنهم إلا بعد أن حققوا المعادلة الصعبة وهى الوصول للقمة ومواصلة جهد الصعود لا التوقف ..
فأين هؤلاء من هذا الكاتب المعروف الذى استضافته إحدى المذيعات فسألته عن حكمته فى الحياة فقال لها
{ قول الله عز وجل اطلبوا العلم ولو فى الصين .. فعقبت المذيعة المثقفة صدق الله العظيم !!! }

الثقافة العامة وضرورتها ..لسنا بحاجة إلى بيان أهمية الثقافة لعامة الناس لتعلقها الشديد فى عصرنا الحالى بالاستقرار النفسي والإجتماعى للفرد فى عصر ضرب فيه الزيف والتشكيك ثوابت المجتمع المسلم سواء فى الدين أو العقيدة أو الوطنية أو القضايا القومية الكبري ..
ويكفي أنه بغياب الحد المطلوب من الثقافة للعامة غابت سائر أوصاف الحياة الإنسانية وانقلبت مذاهب الحياة لتصبح مذاهب معيشة .. والمعيشة هى أن تأكل وتشرب وتتنفس فقط بينما الحياة تنفعل وتكون حضارة وتتأثر وتؤثر بما حولك
فلا يوجد فارق بين الإنسان المثقف والغير مثقف لأنهم غير قابلين للمقارنة من الأصل فمن لا يقرأ الحد الأدنى أو يطالع الشكل المقبول من المعرفة يصبح معطل الذهن والبصر ويٌساق لغيره كما تُساق الأنعام ..
وليس فى هذا القول أدنى مبالغة ويستطيع القارئ التبصر فى المجتمع الآن ويشاهد الدلائل على ذلك والتى تتضح فى وجوه مشاهدى البرامج الفضائية مثلا وتجدهم ينفعلون ويقتنعون بما يسمعون أيا كان القائل وأيا كان الرأى وكأنما يتحدث المتحدث من هؤلاء عن وحى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
وهذا بسبب غياب الثقافة الذى نتج عنه غياب العقل لتعطله فغابت البصيرة لغياب العقل ..
وانظروا مثلا ما يحدث على الساحة الفلسطينية والصراع الدموى بين مختلف الفصائل .. وأكرر صراع دموى بالسلاح وقتال بين فصائل تنتمى لنفس العقيدة والقومية فى ظل احتلال أجنبي للأرض
فهل سألت الجماهير نفسها سؤالا منطقيا واحدا وهم بصدد صراع على الحكم ..
أين هى الدولة من الأساس لتقوم على حكمها الصراعات ؟!!
أو يسأل بعض أهل الحسرة على تخاذل العرب والمسلمين عن نصرتهم سؤالا أكثر منطقية عن سبب التخاذل الفلسطينى ذاته بعد رحيل أهل الجهاد الكبار من عائلة الحسينى وغيرهم .. وهل طالعوا تاريخ المنطقة وقارنوا بين احتلال إسرائيل لفلسطين والذى يبلغ عمره نيفا وخمسين عاما فقط .. ما الذى يدفع اليأس إليهم وقد احتلت فرنسا الأراضي الجزائرية مائة وستين عاما واحتلت انجلترا مصر ثمانين عاما ولم تجد تلك الشعوب من يدعمها بمال أو سلاح بل كان شبابها يهاجمون المعسكرات ويستولون على السلاح اللازم من قلب معسكرات العدو ولا يتوقفون عن النضال
وكلهم يؤمن تمام الإيمان أن تقريب الطرف الإسرائيلي لفصيلة دون أخرى هو بهدف إرساء مبدأ التفرقة ..
ألا يعد من الجنون أن تعرف السبب والهدف والمصدر ومع ذلك أينما يدفعك ثلاثتهم تنساق خلفه وتنفجر الصراعات ؟!
وقس على هذا سائر الجماهير العربية إزاء جميع القضايا فى المجتمع .. يتشتت شملهم وقناعاتهم حسب الصدفة فأينما تلقي العيون بصرها إلى مقال فى صحيفة أو برنامج فى شاشة تجد المشاهدين يتوزعون انتماء بين مختلف الأقوال وكل منهم لا يعرف إلا وجهة النظر التى سمعها ولم يفهم منها شيئا بل أخذ فى القضية حكما حسبما رأى وسمع وانتهى الأمر
وذلك بسبب غياب الحس الثقافي الذى لا يأخذ أى قول أيا كان على عواهنه بل يمحص ويتدبر طالما أنه لا يتعلق بحكم قرآنى أو نبوى .. وهذا طبيعى لأن غياب هذا الحس يسلب الإنسان قدرة التمييز فيغلق فهمه على ما يسمع من الأشخاص ولا شأن له بما يأتون به هل هى وجهات نظر علمية أو حقيقية أو سليمة أو أنها أوهام وعقائد فاسدة ..
ومن أمثلة ذلك ما يعانيه بعض العلماء عند مناقشة العامة الذين لا يعرفون الفارق بين عالم متخصص أو مفكر حقيقي وبين ذوى الهوى والغرض .. فتستمع لمناقشات تُضحك حتى البكاء بناء على قناعات مسبقة أخذوها بشكل مطلق
مثلا تميل الجماهير فى بلادنا لكل من تحاربه الدولة من المفكرين والعلماء والسياسيين
وحتى من آحاد الناس دونما تفريق بين من منعته الدولة وهى على باطل وهو على الحق وما أكثرهم لأنه يقوم بتوعية الجماهير وبين الذى اختلف مع الدولة فكان اختلافا كاختلاف اللصوص على الغنيمة كلاهما على الباطل مثل اختلاف الدولة مع الأحزاب وبين من منعته الدولة أو عاقبته على خطأ وكان موقفها صحيحا كما حدث فى مصر أثناء قضية نصر أبو زيد مثلا
وقد منعت مصر محمد حسنين هيكل من وسائل إعلامها الرسمية .. فمالت الجماهير إليه لأنه رجل ثقة فى معلوماته حتى وإن اختلفت معه فى التحليل ولا ينافس النظام لا فى طلب حكم ولا فى انتخابات ولا شأن له بالغرض فيما يقوم به لكن أن تقوم الجماهير بتتبع آخر كل مؤهلاته أنه اختلف مع النظام فسجنه ومعه تاريخ قديم عريض من الزيف والخداع وتفضيل مصلحته الشخصية حتى لو كانت على حساب المصالح الوطنية .. هذا هو الذى يثير الحسرة !
وما كان هذا إلا لغياب الوعى ومحاولة مطالعة الأوراق الكاشفة لتلك الهويات .. وعدم وجود الكبراء الناصحين إما لأن الشباب يهملون السماع وإما أن الكبار تمت التضحية بهم على مذابح الإهمال
ومن المؤسف حقيقة أن الوعى المدرك لدى الأجيال الماضية كان متوافرا لدى معظمهم وهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة وليس فى الأمر تناقضا
فالثقافة لها عدة أوجه بالذات فى عصرنا الحالى سماعا ورؤية وقراءة وكانت أيضا متنوعة لدى أجيال آبائنا وأجدادنا للأميين فى شيوخ المساجد على المنابر وفى أجهزة المسماع { الراديو } وكانت فى مدرسي المدارس والذين لم تكن وظيفتهم تعليم الطلاب فى مدارسهم فقط بل كانت تمتد لسائر المجتمع القروى عبر مختلف المنتديات التى كانت تلتف حول قدر النار فى ليالى الشتاء وفى جلسات المصاطب فى الصيف وفى الكتاتيب التى أخرجت سائر علماء وفقهاء ومفكرى الأمة الكبار وخريجى الجامعات الذين كان الواحد منهم فى ثقافته يساوى الآن عقلية أستاذ جامعى حامل للدكتوراه
وفى ظل هذه الوسائل البسيطة التى لا تمثل شيئا فى زحام الإمكانيات التى يتمتع بها جيل اليوم من معارف بلا حدود وفى متناول اليد .. فى ظل تلك الوسائل البسيطة كانت أجيال آبائنا عمالقة فى ثقافتها حتى الأميين منهم
وذلك لأن الأساسيات توافرت فيهم فليست الثقافة أن تقرأ فقط .. بل الثقافة تحتاج أولا عقلا مدركا ليفصل بين ما هو محكم قطعى لا نقاش فيه وبين ما هو قابل للنقاش .. وبصيرة تمت فطرتها على احترام كل ذى علم ومنحه الصدارة وإنكار كل تافه وطرده من المجتمع بالإهمال
فأين نحن الآن من هذا
.. ؟!

وللحديث بقية