قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة ) (17)

قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة ) (17)

ولا ينبغي أن يستهين القارئ بتلك الأغنيات وهذا الأسلوب ,

فأثره العميق على الشعوب العربية تفوق على مجموع ما قام به الإعلام من صحافة وإذاعة وخطب و.. الخ ,

لأن جموع الشعب في تلك الفترة كانت قلوبها تتعلق بهؤلاء المطربين الذين كانوا بحق رواد تربية الرأى العام وأدوات توجيهه وأصبحت إذاعة صوت العرب منبع رئيسي يهز العروش والجيوش في المنطقة إذا ذُكر فيه اسم عبد الناصر !!

ودخلت الجماهير في غيبوبة خدر هائلة استمتعت بها ورفضت أى تعكير لصفو الصورة الهلامية ,

ولإدراك مدى التأثير الفادح على الجمهور , يكفي أن نعلم أن عددا من أبرز الكتاب والصحفيين والمفكرين ظلوا رهنا لتجربة الناصرية مسبحين بحمدها حتى بعد النكسة , وحتى يومنا هذا , رغم أنهم جميعا من ضحايا معتقلاتها !

بخلاف هيكل طبعا الذى يمكن فهم سر دفاعه , لكن الإستغراب قائم على المفكرين الكبار من أمثال محمود السعدنى ومحمد عودة وأحمد فؤاد نجم وحمدى قنديل ومحمود عارف ويوسف القعيد وغيرهم عشرات ,,

فهؤلاء جميعا ذاقوا ويلات المعتقلات في عهد عبد الناصر نفسه رغم إخلاصهم العنيف له , ولنظامه , ولتجربته , وكانت التهم التي أوصلتهم للمعتقلات من التفاهة بمكان !

وعاشوا في ذل القيد والإعتقال في الصحراء سنوات طوال , ولو أخذنا محمود السعدنى مثالا لوجدنا أنه عبر عن تجربة سجنه في سجن الواحات الرهيب في إحدى كتبه الشهيرة وهو ( الطريق إلى زمش ) وذكر فيه ما تعرض له هو ورفاقه من أساتذة الجامعات وكبار المفكرين والصحفيين والروائيين من صنوف وألوان التعذيب والإهانة والضرب المبرح بلا أدنى مبرر !

ويذكر السعدنى ببساطة تفاصيل عمليات التعذيب القمعى وكيف أن أكبر عقول البلاد تم إجبارهم من زبانية السجن الحربي على اتخاذ اسم امرأة تحقيرا وإذلالا , وعلى المشي عرايا في فناء السجن , بخلاف حفلات التعذيب الذى ذكرها والتى كانت تقيمها إدارة السجن إشباعا لنازية قائد المعتقل !

ومع ذلك فقد ظل السعدنى يقدم نفسه حتى آخر عمره باعتباره سفير الناصرية لدى طبقات الشعب , على اعتبار أن هيكل هو سفير الطبقات العليا ,

وظل يتمنى أن يموت وهو ناصري وأن يُبعث يوم القيامة ناصريا !!

فإذا كان هذا حال المفكرين الكبار .. فللشعب علينا حق العذر حتما !

وبهذه الوسيلة ارتفعت حماسة الجماهير إلى درجة الإلتهاب والإلتحام ولما كانت الأغانى أكثر كثافة بكثير من المنجزات على أرض الواقع , فقد اضطر المطربون إلى أن يغنوا لكل شركة أو مشروع تم إنشاؤه ولو كان مشروعا تافها !

ثم أصبحوا يغنون لكل عربة نقل تحمل بعضا من معدات السد العالى !

ورحم الله محمد على باشا ..

بنى مصر الحديثة كلها وجعلها أقوى قوة في الشرق الأوسط ومد فيها الترع والمصارف والقناطر الخيرية , وكل هذا بتمويل داخلى دون اقتراض مليم من الخارج وبكفاءة هندسية مصرية وبعمالة مصرية وزاحم الدول الأوربية بجيش وطنى رهيب في العتاد والعدة والإنتصارات ..

ورغم ذلك لم يجد كلبا شاردا يهز له ذيله مستحسنا !!

ولو أخذنا مثالا واحدا لمطرب مثل محمد قنديل وهو في هذا العصر من مطربي الصف الثانى أو الثالث , فقد أحصيت له خمسين أغنية على الأقل في موقع ( سماعى ) الموسيقي تتمحور حول قناة السويس والسد العالى وعبد الناصر والناصرية والضباط الأحرار والإشتراكية والحرية وحتى شركات الزيوت والصابون !

هذا العدد لمطرب واحد بخلاف نجوم الصف الأول الذين كان لكل منهم في العام الواحد عدد معروف من الأغنيات والقصائد التي يتم التغنى فيها بنفس المنجزات المحدودة في مناسبات ومواسم ذكراها في كل عام !

ولما فرغت سائر الإنجازات واحتاجت الحماسة إلى ما يغذيها لجأ المطربون والشعراء إلى اختراع ما يغنون له , فتوجهوا بكليتهم إلى شخص عبد الناصر ومزاياه وهيبته وصوته وخطبه وأولاده و .. الخ

وقد وصل التغييب بهيكل حدا غير متصور دفعه في كتابه ( خريف الغضب ) وهو في معرض حديثه عن خالد الإسلامبولى ــ قاتل السادات ــ أن يشير بصريح العبارة إلى أن أحمد الإسلامبولى ـ والد خالد ـ قام بتسمية ابنه بخالد تيمنا باسم خالد جمال عبد الناصر لأنه وُلد في الفترة الفوارة بالوطنية والتى كان فيها عبد الناصر وأولاده ذروة الحلم !!

ولست أدرى أين كان عقل هيكل وهو يكتب هذا الكلام !!

فخالد الإسلامبولى وعائلته كلها ذات اتجاه دينى صرف ووالده كان أحد أئمة المساجد , وشقيق خالد الأكبر كان ناشطا في مجال الدعوة وتم اعتقاله في نهاية عصر السادات لهذا السبب ,

فكيف تصور هيكل أن يسمى الرجل ولده بخالد تيمنا باسم ابن عبد الناصر ويترك خالد بن الوليد سيف الله المسلول !!

وإذا كان الرجل من دروايش الناصرية ألم يكن من الأجدى أن يسمى ولده بجمال نفسه بدلا من خالد ؟!

لكن هيكل في كتابه هذا كان واقعا تحت تأثير نشوة اغتيال السادات والتى قابلها بشماتة ظاهرة في سطور كتابه ( خريف الغضب ) ولم تكن فرحة هيكل كاملة لسبب واحد , [1]

أن من اغتال السادات هو تنظيم الجهاد وكان يتمنى من أعماقه أن يغتاله أحد الناصريين ولهذا سعى إلى التعسف غير المعقول في محاولة إثبات ولاء أسرة الإسلامبولى لعبد الناصر

ويرجع ذلك إلى أن السادات في عرف الناصريين مرتد مهدور الدم ـ وأنا هنا لا أمزح ـ فالناصريون في كافة كتاباتهم عندما يتحدثون عن فترة السادات يسمونها فترة ( الردة الساداتية ) !!

ولهذا كان يتمنى هيكل أن تكون نهاية السادات بيد واحد من مجاهدى الناصرية ! فلما جاءت على يد التيار الإسلامى الذى يكرهه هيكل كراهية التحريم , حاول أن يخترع إنتماء ناصريا لأسرة الإسلامبولى

رغم أن أصغر طفل في الحقل السياسي يعرف موقف الجماعات الإسلامية من عبد الناصر بعدما فعله هذا الأخير بهم في السجون والمعتقلات , ومن الغريب أن هيكل نفسه وهو يتحدث عن جماعة الجهاد أورد بداياتها وكيف أنها نشأت في قلب المعتقلات الناصرية تحت وطأة التعذيب الرهيب مما دفع هؤلاء الشباب لاعتقاد كفر عبد الناصر ونظامه , لأن ما يفعلوه بهم أمر خارج حدود الإنسانية والحيوانية أيضا !

فبدأت عندئذ فكرة تكفير النظام الحاكم وتطورت فيما بعد إلى تكفير المجتمع كله بسبب ولائه لهذه الحكومات !

ولست أدرى ما الذى كان هيكل فاعله لو كان جمال عبد الناصر اسمه محمدا !

خلاصة القول أن هؤلاء الفنانين كانوا في معظمهم مؤمنين بالتجربة بالفعل , ويصدقون ما يقال لهم في الإعلام الرسمى عن أعظم قوة ضاربة في الشرق الأوسط وعن الأساطير التي تم نسجها خلف كل مشروع ,

وتم تصوير هذه المشاريع على أنها إنجازات تتقاصر دونها همم دول العالم !

لهذا فقد اندفعوا بعاطفة جياشة وتعبير صادق ليمتعوا الملايين بمئات الأناشيد والأغانى التي تحرك الأحجار , ويكفي أى قارئ اليوم أن يعود لأرشيف أغنيات عبد الحليم حافظ ( مطرب الثورة الأول وراعيها ) ويستمع إلى أغنيات مثل أغنية صورة ـ السد العالى ـ يا أهلا بالمعارك ـ أحلف بسماها وبترابها ـ حكاية شعب ـ وعشرات غيرها ,

سيدرك القارئ أى تأثير سحرى لهذه الألحان وهذه الكلمات التي عظّمت الحلم في جماهير الأمة العربية لدرجة أسطورية التفت كلها حول عبد الناصر من المحيط للخليج تنتظر إشارة منه في ثقة عمياء مطلقة ,

ولنا أن نتخيل ما أصاب الجماهير عندما أفاقوا من هذا الحلم على كابوس الواقع ,

فبعد أن صنع لهم عبد الناصر أسطورة تتضاءل أمام أساطير اليونان ,

انهارت فجأة كل تلك الأحلام , ولهذا انتهى عهد الأغنيات الوطنية الحافلة الغزيرة بقدوم عام 67 , بل إن الإذاعة نفسها لم تكن تعيد بثها لما تحتويه هذه الأغنيات من حديث ثائر عن تحرير القدس والوحدة العربية والتضامن العربي والقوة الهائلة التي يرتكن إليها الشعب ,

ومن المفارقات الطريفة أن القارئ سيلاحظ على موقع يوتيوب أن بعض هذه الأغنيات التي تم تأليفها فيما قبل عام 1967 م لم يجد الجيل الحالى أفضل منها للتعبير بها عن نصر أكتوبر !

رغم أن أغنية أهلا بالمعارك وأغنية صورة وأغنية أحلف بسماها كلها من منتجات ما قبل النكسة ,

لكن هذا يدلك على مدى الإحباط الذى أسكت ألسنة المطربين وأخرس يراع الشعراء !

وفى مقابل هذا الكم الهائل من الأغانى في عصور الهزائم والخديعة , لم نعثر من هذا الجيل على عدد يتجاوز الأغنيات الخمسة الشهيرة لحرب أكتوبر وفقط !

وهذا أمر طبيعى وردة فعل منطقية كما أوضحنا وتعتبر إحدى الآثار الساطعة لتجربة النكسة ,

ولعل تجربة شاعر وطنى قدير مثل الشاعر صلاح جاهين الذى كتب كلمات أعظم الأزجال الوطنية , كان هو نفسه مؤلف فيلم ( خلى بالك من زوزو ) بعد تجربة النكسة مباشرة عندما انهارت كل القيم واندثر الطموح !

والذي يتأمل هذا التغييب الإعلامى المتعمد عن واقع العالم العربي وأحواله , يجد العذر للمجتمع عندما كفر بكل تلك القيم عقب النكسة , وقد أورد الكاتب الصحفي وجيه أبو ذكرى في كتابه ( مذبحة الأبرياء في 5 يونيو ) رسالة طويلة من أحد الجنود الناجين من مذبحة سيناء , وملأ الرجل رسالته بدموعه وهو يسب ويشتم ويكفّر وجيه أبو ذكرى ورفاقه ويتهمهم بأنهم كانوا السبب الرئيسي للثقة الفارغة التي دفعته ورفاقه إلى جحيم يونيو 67 ! [2]

ويأبي الناصريون اليوم أن يعترفوا بهذا التغييب أو يفيقوا قليلا ليتأملوا العالم من حولهم , ولا زالت مواقعهم على الإنترنت تبث حنينهم للماضي البائس كمان لو كان تاريخا مشرفا أو عملاقا بالفعل ,

ويبدو أن الإدمان الناصري تفوق على سائر أنواع الإدمان ,

وكان المرء يأمل لو أن هيكل ـ بعد هذا العمر المديد ـ وفى ظل رسالته التوعوية التي يمارسها في الشأن الجارى , كنا نأمل لو نزع عنه ثياب القومية واكتفي بما اقترفت يداه ـ وهو كثير ـ وحاول إصلاح ما أفسد ,

لكنه لا زال مصرا !

لم يكتف هيكل بأنه قام مع عبد الناصر بنفس دور هامان مع فرعون ( وهذا القياس والتشبيه لداعية شهير )

ففرعون قبل هامان لم تخطر بباله فكرة إدعاء الألوهية حتى جاء شيطانه هذا فأقنعه بها فعينه وزيرا لبلاطه ونشر هامان العقيدة الجديدة بين الناس وحاول إضلالهم بها كما أضل فرعون نفسه ,

لكن الناس لم تستجب لهامان بقدر ما استجابت لهيكل !

وهذا يعطينا فكرة عن القدرات الخيالية التي يتمتع بها هيكل في مجال السياسة والإعلام !

ولكن .. ياللأسف ,

لو كان هذا كله في سبيل الله !

الهوامش :

[1] ـ خريف الغضب ـ محمد حسنين هيكل ـ طبعة الأهرام الكاملة

[2]ـ مذبحة الأبرياء فى 5 يونيو ـ وجيه أبو ذكرى ـ المكتب المصري للنشر

التعليقات مغلقة.